مع الافتتاح المرتقب للمتحف المصري الكبير، تتجه الأنظار إلى الصرح الحضاري الأضخم في تاريخ مصر الحديث، لكن قليلين فقط يعرفون أن الأرض التي تحتضنه اليوم شهدت على مدى أكثر من قرنين من الزمان تحولات عميقة في الوجع والانتصار، من وسية للباشوات والإنجليز إلى رمز للهوية الوطنية المصرية الحديثة.
الكاتب والباحث سامح فايز كشف بالوثائق والتفاصيل التاريخية غير المعروفة عن أرض المتحف، ويروي الحكاية الكاملة للأرض التي تحتضن الآن أكبر متحف لحضارة واحدة في العالم، موثقًا بالصور كيف تغيّر المكان من صحراء مهجورة ومعسكرات للإخوان في الثمانينيات إلى منارة ثقافية يقف فيها اليوم تمثال رمسيس الثاني كأول ساكنٍ للمتحف الكبير، شاهداً على رحلة أرضٍ عاشت تاريخ مصر كله، بحروبه وثوراته وانتصاراته.
وكشف فايز أن معرفته بحكاية الأرض التي بُني عليها المتحف «تضاعف فرحته بالافتتاح»، لأنها تمثل ـ على حد قوله ـ "رحلة كفاح وتحرر عمرها قرنان من الزمان".
قال فايز إن أرض المتحف تقع على أطراف قريتي كفر غطاطي وكفر نصار التابعتين لحي الهرم بمحافظة الجيزة، موضحًا أنه جمع حكاياتها على مدار ثلاثين عامًا من شهادات أهالي القرية ومصادر رسمية في وزارات الزراعة والتخطيط وهيئة المساحة، إلى جانب ما عايشه بنفسه منذ طفولته وحتى اليوم.
وأضاف أن المنطقة قبل 35 عامًا لم تكن سوى "صحراء وجبال تُعرف بالظهير الصحراوي لكفر غطاطي»، وكانت تمتد حتى منطقة حدائق الأهرام الحالية، مشيرًا إلى أن الروايات الشفوية القديمة كانت تطلق على المكان اسم (جحر الديب) لأنه كان مأوى للذئاب التي تهبط من الهضبة، ثم تحوّل الاسم بمرور الوقت إلى غطاطي".
وأوضح أن فكرة إنشاء المتحف المصري الكبير بدأت في التسعينيات، وأن أول نزع ملكية لأراضي المشروع تم وقتها، مشيرًا إلى أنه كان شاهدًا على تلك المرحلة حين كان طفلًا في المرحلة الإعدادية.
"رسل باشا".. الإنجليزي الذي ملك غطاطي
ولفت فايز إلى أن قرية غطاطي رغم قربها من منطقة الأهرامات "لم يذكرها أي مصدر تاريخي كموقع أثري"، إذ كانت في الأساس منطقة زراعية تابعة لعائلات الباشوات والإنجليز في النصف الأول من القرن العشرين.
وأشار إلى أن خرائط المساحة لا تزال تسجلها حتى اليوم كأحواض زراعية تحمل أسماء مثل "حوض المنيكلي باشا" و"حوض الصيرفي باشا"، موضحًا أن "الوسية" الأكبر في القرية كانت مملوكة للضابط الإنجليزي رسل باشا، حكمدار القاهرة في الأربعينيات، والذي أُطلق اسمه على شارع "البرنس" المقابل لواجهة المتحف.
وقال فايز إنه بحث في مذكرات رسل باشا التي صدرت عام 1949، لكنه فوجئ بأنها "لم تذكر القرية أو أهلها على الإطلاق"، مؤكدًا أن هذا يعكس نظرة المستعمر المتعالية آنذاك على الريف المصري، الذي كان يُعامل كساحة نفوذ لا كموطن حياة.
من عمال الأرض إلى أصحابها
وأشار فايز إلى أن ثورة يوليو 1952 كانت نقطة التحول الكبرى في تاريخ القرية، إذ تحوّل أهلها من عمال ومزارعين إلى ملاك بعد توزيع الأراضي الزراعية بقرار من مجلس قيادة الثورة، وهو ما رسّخ انتماء السكان للمكان.
وأضاف أن أبناء غطاطي استفادوا لاحقًا من التعليم المجاني في الستينيات والسبعينيات، وبدأ بعضهم يسافر إلى أوروبا للعمل في الصيف، موضحًا أن من بين هؤلاء رجل الأعمال ممدوح غطاطي، حفيد الحج غطاطي الكبير مؤسس القرية، والذي أسس في ما بعد توكيل "فارتا" الألمانية في مصر.
نشاط الإخوان في المنطقة
وأكد فايز أن المنطقة شهدت أيضًا نشاطًا لجماعة الإخوان المسلمين منذ الأربعينيات، حيث استخدم التنظيم الإرهابي جبال أبو رواش لتدريب عناصره على السلاح، مشيرًا إلى أن بعض من شاركوا في الهجمات الإرهابية على قسم كرداسة عام 2013 خرجوا من نفس المناطق.
وأضاف أن الجماعة كانت تنظم أيضًا «كتائب ليلية» داخل الأراضي الزراعية، لتأهيل الشباب نفسيًا للفكر المتشدد، قبل أن تبدأ المواجهات الأمنية في التسعينيات للقضاء على هذه البؤر.
كنا نمر من أرض المتحف إلى المدرسة
وتابع فايز: "كنت في الثانوية العامة بمدرسة في حدائق الأهرام، وكنا بنعدي يوميًا من أرض المتحف مشيًا على الأقدام من القرية إلى الجبل، رحلة يومية استمرت ثلاث سنين. في آخر سنة اتبنى السور حوالين الأرض وقالوا لنا محدش هيعدي تاني، وكانت لحظة وجع لأن المكان ده نص حياتي".
ولفت فايز إلى أن أول حدث رسمي شهدته الأرض قبل إنشاء المتحف كان نقل تمثال رمسيس الثاني من ميدان رمسيس عام 2005، قائلاً: "التمثال اتنقل قبل بناء المتحف، واتساب سنين في مكانه، وبعدها اتحرك مسافة صغيرة داخل الأرض إلى المدخل الرئيسي. كنت بعدي عليه كل يوم وأنا رايح الجامعة وأسلم عليه وأقول له: ازيك يا جدي!".
قصة الأرض من "جحر الديب" إلى "أسوار القرية"
وكشف سامح فايز لـ "اليوم السابع" أن قصة أرض المتحف لم تكن مجرد مادة توثيقية أو بحث ميداني بالنسبة له، بل كانت أيضًا الشرارة الأولى التي ألهمته في تجربته الأدبية، موضحًا أن مشروعه الروائي الأول الذي بدأ العمل عليه قبل سنوات حمل في البداية اسم "جحر الديب"، وهو الاسم القديم الذي كانت تُعرف به المنطقة في الروايات الشفوية القديمة، قبل أن يتحول الاسم لاحقًا إلى العنوان النهائي "أسوار القرية".
وأوضح أن الرواية كانت محاولة لاستعادة الذاكرة الشعبية للقرية التي وُلد فيها، ولتوثيق التحولات التي شهدتها الأرض من وسية للباشوات إلى مجتمع جديد تخلقه ثورة يوليو، وصولًا إلى ظهور الجماعات الإسلامية في الثمانينيات والتسعينيات، مضيفًا أن جزءًا كبيرًا من تفاصيل الحياة في القرية التي وردت في الرواية مأخوذ من المشاهد الحقيقية التي عاشها بنفسه على أطراف الأرض التي يقف عليها المتحف اليوم.
وأشار فايز إلى أنه استفاض في الجزء الخاص بجماعة الإخوان، الذي تناوله بشكل أكثر مباشرة وتحليلًا فكريًا في كتابه "جنة الإخوان"، الذي وثّق فيه مراحل تغلغل الجماعة في المجتمع المصري عبر النشاط الاجتماعي والثقافي والديني، وكيف تحوّلت تلك الأنشطة البسيطة في القرى إلى أدوات منظمة للتجنيد والتأثير.
وأضاف أن ما يربط بين روايته "أسوار القرية" وكتابه هو أن كليهما خرجا من رحم نفس الأرض التي بُني عليها المتحف، "الأرض التي شهدت كل التناقضات الممكنة في التاريخ المصري الحديث — من سيطرة الباشوات والإنجليز، إلى صعود الجماعات الدينية، إلى انتصار الدولة المدنية الحديثة".
وأكد فايز أن استعادة حكاية الأرض عبر الأدب والتوثيق ليست فقط تذكيرًا بالماضي، بل "تأكيد على أن المتحف الكبير لم يُبنَ على فراغ، بل على ذاكرة بشرية حية، وأرضٍ شهدت كل مراحل التحول في الوعي المصري".
رمز الأرض والإنسان
وفي ختام حديثه، أكد سامح فايز أن افتتاح المتحف المصري الكبير يمثل بالنسبة له رمزًا لانتصار الأرض والإنسان معًا، قائلاً: "أرض المتحف مش مجرد أرض، والمتحف نفسه مش مجرد متحف. مش فارق معايا لو هو أكبر أو أصغر متحف في العالم، اللي فارق معايا إن الأرض دي زمان كانت بتاعة الباشوات والإنجليز وبعدين الإخوان، وكنا شغالين فيها بالأجرة، وربنا نصرنا وبقينا أصحابها".
وأضاف: "أرض المتحف هي خلاصة 200 سنة من الوجع والاحتلال والصراع، و40 سنة من الذاكرة اللي أنا عشتها فيها. الافتتاح ده مش بس احتفال بالآثار، لكنه احتفال بالإنسان المصري اللي استعاد أرضه وحلمه".

استراحة الملك فاروق على بعد أمتار من أرض المتحف
.jpg)
خريطة موقع أرض المتحف الكبير (1)
.jpg)
خريطة موقع أرض المتحف الكبير (2)
.jpg)
خريطة موقع أرض المتحف الكبير (3)
.jpg)
خريطة موقع أرض المتحف الكبير (4)
.jpg)
خريطة موقع أرض المتحف الكبير (5)
.jpg)
خريطة موقع أرض المتحف الكبير (6)
.jpg)
خريطة موقع أرض المتحف الكبير (7)
.jpg)
خريطة موقع أرض المتحف الكبير (8)
.jpg)
خريطة موقع أرض المتحف الكبير (9)
.jpg)
خريطة موقع أرض المتحف الكبير (10)

دوار الحج غطاطي على مسافة أمتار من أرض المتحف

رسل باشا حكمدار القاهرة

صورة لعمليات البناء في المتحف قبل عشر سنوات. التقطها المصور مصطفى محمود عام 2015 من داخل القرية