يشهد العالم اليوم نقطة تحول حاسمة فى مجال الاستخبارات والأمن القومي، خاصة فى ظل التدفق الهائل للبيانات المتاحة على نطاق مفتوح، والذكاء الاصطناعى القادر على تحليل هذه البيانات بسرعة غير مسبوقة.
وذكرت مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية أن الاستخبارات لم تعد تدور فقط حول الأسرار، بل أصبحت فن استخدام البيانات من أجل رؤية أوضح، واتخاذ قرارات أسرع، والتحرك أولا فى سباق تكنولوجى عالمى يحمل أبعادا جيوسياسية عميقة.
وأوضحت المجلة أنه عندما تأسست وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية عام 1947، كان عمل الاستخبارات أشبه بعملية صيد للأسرار الخفية فى عالم مغلق. أما اليوم، فقد أصبح العالم غارقا فى بحر من البيانات التى يتم انتاجها باستمرار فى بيئة رقمية.
وأكدت المجلة أنه فى ضوء ذلك، فقد تغيرت قواعد اللعبة. ففى ظل عودة التنافس بين القوى العظمى، يتمحور الصراع حاليا حول الفوز بتقنيات المستقبل: الذكاء الاصطناعي، والحوسبة الكمية، وغيرها. ومن يحسن السيطرة على هذه التقنيات سيشكل ملامح النظام الجيوسياسى للقرن المقبل.
وشددت المجلة على أن التحولات الكبرى فى التكنولوجيا والسياسة تستدعى تحولات موازية فى بنية الاستخبارات نفسها، من نموذج مغلق قائم على السرية، إلى نموذج جديد يرتكز على الانفتاح والسرعة والمعرفة. وفى قلب هذا التحول، يقف ما يعرف بالاستخبارات مفتوحة المصدر (OSINT)، التى يغذيها الذكاء الاصطناعي، لتتحول من مجرد أداة مساعدة إلى قاعدة أساسية لعمل الاستخبارات الحديثة.
الاستخبارات مفتوحة المصدر
ترى "فورين بوليسي" أنه ينبغى النظر إلى الاستخبارات مفتوحة المصدر كأصل من الأصول الوطنية، خصوصا فى عصر الذكاء الاصطناعي، حيث أصبحت البيانات عنصرا لا يقل أهمية عن الأرض والعمل ورأس المال، إذ تمتد تأثيراتها عبر قطاعات الدولة المختلفة، وتستمد قوتها من الشفافية وسهولة الوصول إليها، ما يستدعى تطويرها خارج البيئات المصنفة والسرية.
ومع ذلك، لا يزال كثير من العاملين فى أجهزة الاستخبارات الأمريكية ينظرون إلى الاستخبارات مفتوحة المصدر كأداة ثانوية، وهى نظرة لم تعد تواكب الواقع. فاليوم يتم انتاج الغالبية العظمى من بيانات العالم فى فضاءات رقمية مفتوحة، ما يجعل الاستخبارات المفتوحة نقطة الانطلاق الطبيعية لأى تحليل. ولم يعد السؤال اليوم: "ما الأسرار التى يمكن كشفها؟"، بل "ما الذى تكشفه المعلومات المفتوحة بالفعل؟"
وفى هذا الصدد، طرح بعض الخبراء فكرة إنشاء وكالة حكومية أمريكية متخصصة فى الاستخبارات مفتوحة المصدر، لكن هذا الطرح يغفل حقيقة جوهرية، وهى أن أفضل الأعمال فى هذا المجال تجرى خارج المؤسسات الحكومية. ولتحقيق الاستفادة القصوى من إمكانات الاستخبارات المفتوحة، ينبغى للولايات المتحدة أن تتعامل معها كأصل وطنى مشترك، لا كقدرة بيروقراطية (حكومية) معزولة. فبدلا من بناء جدران جديدة داخل الدولة، يجب مد الجسور بين القطاعين العام والخاص، إذ يمتلك القطاع الخاص الأدوات الابتكارية والتكنولوجية اللازمة لقيادة المستقبل الأمريكى فى تطوير قدرات استخباراتية متقدمة، تخدم المصالح القومية وتعمل بانسجام مع الدولة لا بمعزل عنها.
*الشركات الخاصة ودورها فى الأمن القومى
ولفتت مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية إلى أنه لم تعد قدرة القطاع الخاص على انتاج معلومات دقيقة وموثوقة محل شك. ففى عام 2013 كانت شركة الأمن السيبرانى "مانديانت" أول من كشف عن مجموعة تجسس أجنبية معروفة باسم "APT1"، وفى عام 2016 كانت شركة "كراودسترايك" أول من حدد هوية مجموعة قرصنة روسية تدعى "فانسى بير". علاوة على ذلك، أكد أحد كبار مسؤولى الاستخبارات الأمريكيين المتقاعدين أن نحو 95 بالمئة من عمله السابق كان يمكن الحصول عليه عبر الاستخبارات المفتوحة.
وعليه، فإن الأمر لم يعد مقتصرا على شركات الأمن السيبراني. فحتى شركات صناعية مثل "داو كيميكال" تمكنت، بفضل تحليل البيانات المتاحة (المفتوحة)، من التنبؤ بالغزو الروسى الكامل لأوكرانيا فى فبراير 2022 بدقة لافتة، متقدمة على دول كبرى تمتلك أجهزة استخبارات عملاقة.
ومع تسارع التغيرات الجيوسياسية، باتت الشركات الكبرى تزيد استثماراتها فى أدوات التحليل المفتوح لتأمين موقعها فى عالم لا ينفصل فيه الاقتصاد عن الأمن.
ثورة مضادة فى عالم مكافحة التجسس
وترى "فورين بوليسي" أنه بموازاة ذلك، يشهد العالم ولادة صناعة جديدة فى مجال مكافحة التجسس، تقودها تقنيات الذكاء الاصطناعي. فكما تغيرت طبيعة الاستخبارات، تتغير اليوم طبيعة المواجهة مع الاختراقات المعادية. ومن اللافت أن القطاع الخاص هو من يتصدر هذه الجبهة أيضا، إذ تتبنى الشركات الكبرى وحدات لمكافحة التجسس توازى فى عملها ما كانت تقوم به أجهزة حكومية فى القرن الماضي.
وبينت المجلة أن أجهزة الاستخبارات الأمريكية تم بناؤها لمواجهة الاتحاد السوفييتي، فى عالم كان يدور حول الأسرار لا أجهزة الاستشعار. ورغم التحديثات المتكررة، لا تزال هياكل هذه الأجهزة وثقافتها أسيرة حقبة مضت. أما اليوم، فإن الكم الهائل من المعلومات الرقمية المتاحة للعامة يمنح محللى البيانات القدرة على استخراج نتائج مهمة دون الحاجة إلى عمليات سرية معقدة. وقد جسدت مؤسسة التحقيقات الصحفية "بيلينغجكات" هذا التحول بوضوح، إذ تمكنت عبر مصادر مفتوحة من كشف أنشطة روسية سرية كانت تتطلب فى الماضى سنوات من العمل الاستخبارى السري.
*الصين… نموذج الاستخبارات الشاملة
لفهم التحدى الحقيقى أمام الولايات المتحدة، يجب -وفقا للمجلة الأمريكية- النظر إلى الطريقة التى تتعامل بها الصين مع مفهوم الاستخبارات. فبكين تعتمد ما تسميه "نهج المجتمع بأكمله"، حيث تسخر جميع الموارد والأفراد والمؤسسات فى عملية جمع المعلومات، سواء كانت عسكرية أو تجارية أو صناعية. هذه المقاربة، التى تمثل حجر الزاوية فى استراتيجية "النهضة الوطنية" التى أعلنها الرئيس الصينى شى جين بينغ، تمكن الحزب الشيوعى الصينى الحاكم من دمج القدرات المدنية والعسكرية فى منظومة واحدة لا تفرق بين الأهداف الاقتصادية والعسكرية كما هو الحال فى الغرب.
ونوهت المجلة إلى أن الصين تجمع كل أنواع البيانات، الظاهرة منها والمخفية، وتخزنها فى مراكز ضخمة داخل أراضيها. وبفضل الذكاء الاصطناعي، تستطيع تحليل هذه الكميات الهائلة من البيانات لاستخلاص معلومات استراتيجية، وهو ما يمنحها تفوقا تكنولوجيا واقتصاديا متزايدا. وتجلى ذلك مع تجدد الحرب التجارية مع واشنطن هذا العام، ومحاولات الصين الالتفاف على القيود المفروضة عليها.
القطاع الخاص فى خط المواجهة
وتؤكد مجلة "فورين بوليسي" أن الفصل القائم فى الغرب بين القطاعين العام والخاص يخلق ثغرة تستغلها الصين بمهارة، عبر تجنيد علماء ومهندسين داخل الشركات الأمريكية. ووفق مكتب التحقيقات الفيدرالي، كانت الوكالة تفتح تحقيقا جديدا متعلقا بالصين كل 12 ساعة فى عام 2022.
ونتيجة لذلك، بدأت تتشكل صناعة أمريكية لمكافحة التجسس فى القطاع الخاص، إذ أنشأت شركات التكنولوجيا الكبرى مثل "ميتا" و"آبل" و"مايكروسوفت" و"أمازون" و"أوبن إيه آي" و"كراودسترايك" وحدات متخصصة لمواجهة التهديدات ذات الطابع الاستخباري.
وفى المقابل، تمضى المؤسسات الحكومية بخطى أبطأ.
فرغم مرور أكثر من سبعة عقود على تأسيس وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، لا تزال بنيتها العامة شبيهة بما كانت عليه عام 1947. ولو أعيد تصميم جهاز استخباراتى يتناسب مع القرن الحادى والعشرين، لاحتفظ بالأهداف ذاتها، لكنه سيكون مختلفا جذريا فى الشكل والآليات.
سباق الاستخبارات الجديد
وبناء على ما سبق، ترى المجلة الأمريكية أن السباق الاستخباراتى العالمى قد بدأ بالفعل، ولن يكون المنتصر فيه من يحتكر الأسرار، بل من يحسن استثمار البيانات، ويسخر الذكاء الاصطناعي، ويتقن التعاون بين القطاعين العام والخاص. إنها ليست مجرد ثورة فى أساليب العمل الاستخباراتي، بل إعادة تصميم شاملة لمفهوم الاستخبارات ذاته. وعلى الولايات المتحدة، إن أرادت الحفاظ على ريادتها، أن تكون فى طليعة هذا التحول.