كانت الساعة الواحدة وأربعين دقيقة صباح 9 أكتوبر، مثل هذا اليوم، 1973 حين استيقظ هنرى كيسنجر وزير الخارجية الأمريكية على مكالمة تليفونية من السفير الإسرائيلى فى واشنطن «دينتز»، يسأله عما تستطيع أمريكا عمله لإمداد إسرائيل بالأسلحة والمعدات، حسبما يذكر كيسنجر فى الجزء الرابع من مذكراته، وينقل منها المشير محمد عبدالغنى الجمسى فى مذكراته «حرب أكتوبر 1973»، وكان رئيسا لهيئة عمليات القوات المسلحة أثناء الحرب، وقبل أن يصبح رئيسا للأركان ثم وزيرا للحربية حتى يوم 3 أكتوبر 1978.
كان يوم 9 أكتوبر 1973 هو الرابع فى الحرب ضد العدو الإسرائيلى، ويذكر «الجمسى»، أنه خلال هذا اليوم دارت معركة بحرية بين تشكيل بحرى معاد يعاونه مجموعة طائرات هليوكبتر وبين مجموعة لنشات مصرية فى البحر المتوسط شمال الساحل الشمالى لسيناء، وتمكنت اللنشات المصرية من إغراق خمسة لنشات إسرائيلية، وخسرنا ثلاثة لنشات، وفى المعارك البرية، تقدمت قواتنا حتى وصلت إلى مسافة 150 كيلو متر داخل سيناء، بعد أن كبدت العدو خسائر فادحة، كما فرت مجموعات من أفراد العدو تاركين مواقعهم وأسلحتهم وذخيرتهم، ووقع الكثيرون منهم فى الأسر.
لم تكن خسائر إسرائيل الفادحة بنفس الصورة لدى كيسنجر فبدا له سؤال السفير الإسرائيلى محيرا، فالتقديرات التى أبلغها السفير له قبل ساعات ذكرت أن المعركة يجب أن تكون قد تحولت إلى نصر إسرائيلى حاسم، فما الذى يدعوه إلى استعجال الطلبات التى تقدمت بها إسرائيل، وكانت محددة بأنواع معينة من الذخيرة والمعدات الالكترونية، وتم الاستجابة لها بالفعل، وحصلت على صواريخ «سيدوندر»، وهناك بعض الطلبات لم تستطع أمريكا تلبياتها كطائرات جديدة من الطائرة الفانتوم -4 غير التى فى طريقها إليهم، وأمام ذلك طلب كيسنجر من السفير الإسرائيلى أن يتحدثا فى هذا الموضوع مبكرا، لكن السفير عاد وأيقظه مرة ثانية وكرر نفس الرسالة.
فى الساعة الثامنة صباح 9 أكتوبر اجتمع «كيسنجر» بالسفير الإسرائيلى بغرفة الخرائط بالطابق الأرضى من البيت الأبيض، وصحب السفير معه الجنرال «مردخاى جور» الملحق العسكرى بسفارته، ويسجل كيسنجر فى مذكراته ما جرى، قائلا: «أخذ كل من دينتز وجور بالحديث، وأخبرانى أن خسائر إسرائيل حتى هذه اللحظة كانت مرعبة وغير منتظرة، فقد فقدت 49 طائرة، منها 14 دمرت بالكامل، ورغم أن الرقم مرتفع لكن لا يستدعى الدهشة إذا أخذنا فى الاعتبار أن سوريا ومصر يملك كل منهما أعدادا كبيرة من الصواريخ أرض/ جو السوفيتية، وكانت صدمتى كبيرة عندما علمت أن إسرائيل خسرت 500 دبابة من بينها 400 دبابة على الجبهة المصرية وحدها».
يكشف كيسنجر، أن دينتز طلب منه عدم إطلاع أحد على هذه المعلومات سوى الرئيس نيكسون، لأن الدول العربية التى ما زالت تختار لنفسها موقف التحفظ حتى الآن قد تنضم إلى المعركة لو عرفت بحجم هذه الخسائر، ويضيف كيسنجر فى سرد ما حدث فى الاجتماع، قائلا: «إن كل ما أخطرنا به دينتز يوجب علينا إعادة النظر فى الأسس التى وضعناها لاستراتيجيتنا، فقد كانت كل إجراءاتنا الدبلوماسية، وسياستنا فى إعادة تسليح إسرائيل، ترتكز على انتصار إسرائيلى سريع، وقد تجاوزنا هذه الادعاءات وحدث شىء لم نكن ننتظره، إن الدبابات التى تفتقر إليها إسرائيل يصعب إرسالها بالسرعة المطلوبة، واقترح «جور» تأمينها من عتادنا الموجود فى أوروبا، وحتى هذه الحالة يلزمنا عدة أسابيع.
يؤكد كيسنجر أنه جرى الاتفاق على أن تبدأ طائرات العال بنقل قطع الغيار والمعدات الإلكترونية، ولكن أسطولها الذى لا يتجاوز سبع طائرات لا يستطيع أن ينقل العتاد الثقيل، أما بالنسبة للمواد التى تحتاج للتشاور، فقد وعدت باجتماع لفريق العمل الخاص، وتبليغ الإجابة إلى «دينتز» قبل نهاية نهار 9 أكتوبر، ويعلق «كيسنجر» بقوله: «لم يخالجنى الشك أبدا فى أن هزيمة إسرائيل بفضل التسليح السوفيتى ستكون كارثة جغرافية سياسية بالنسبة للولايات المتحدة، ولذلك حرصت إسرائيل على انتصار فى احدى الجبهتين، قبل أن يتخذ دبلوماسيو الأمم المتحدة مكاسب العرب حقا يثبتونه فى اجتماعاتهم القادمة، وأخذنا نركز جهودنا على انتزاع نصر على السوريين، أما على المصريين فهذا أمر يطول كما قال دينتز».
كان السؤال أمام كيسنجر: ما العمل لمساعدة إسرائيل عسكريا؟، ويجيب بأنه استدعى «مجموعة العمل الخاصة»، ووضعوا البدائل أمام الرئيس نيكسون، وفى الساعة الثامنة عشرة والدقيقة العاشرة من الثلاثاء 9 أكتوبر، نقل كيسنجر إلى السفير الإسرائيلى قرار نيكسون بإرسال جميع قطع الغيار والمعدات المدرجة فى القائمة، ويعنى ذلك تجهيزات ومعدات الكترونية ماعدا قنابل الليزر، وتعويض كل ما فقدته إسرائيل من طائرات ودبابات، وسيرسل عددا من المدرعات من طراز م-60، وهى أحدث ما لدى أمريكا، وستصل إلى إسرائيل طائرات حديثة أيضا، أما باقى الأصناف فيجب وضع توقيت ينظم الإرسال والوصول، وتؤكد أمريكا أن جميع خسائر إسرائيل ستعوض، وإذا اضطرت إلى الدبابات فستصلها ولو على طائرات أمريكية.