فى لحظة إمتزجت فيها نبضات الحاضر بأصداء التاريخ وتشابكت فيها رموز القوة والارادة والحضارة، تم الإعلان مساء أمس عن فوز الدكتور خالد العنانى مرشح مصر بمنصب المدير العام لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة اليونسكو، ليصبح بذلك أول مصري وعربي يتولى قيادة هذه المنظمة الدولية العريقة منذ تأسيسها قبل قرابة ثمانية عقود.
فوز العناني الكاسح بالمنصب الدولي الكبير لم يكن وليد المصادفة بل ثمرة إرادة سياسية واعية وتحرك دبلوماسي محكم جسد الرؤية والإرادة المصرية في استعادة موقعها الطبيعي كقلب نابض للثقافة الانسانية ومنبر للحوار والسلام.
وبينما يحتفل الشعب المصري اليوم ، بشموخ وعنفوان جيشه ، بانتصار السادس من أكتوبر 1973 المجيد ، فقد جاء هذا الانتصار في يوم السادس من أكتوبر بفوز العناني اليوم كمرشح لمصر ، ليعيد تأكيد ريادتها الفكرية والثقافية على الساحة الدولية ، ويؤكد أن قوة مصر الناعمة لا تقل حضوراً وتأثيراً عن قوتها الصلبة.
ويشير المحرر الدبلوماسي لوكالة أنباء الشرق الأوسط إلى أن هذا الانجاز اليوم في ذكرى السادس من أكتوبر ليس مجرد مصادفة زمنية بل يحمل مغزى رمزياً عميقاً يجسد فلسفة الدولة المصرية الحديثة في الجمع بين قوة السلاح وقوة الفكر ، بين الدفاع عن الأرض وصون الهوية ، بين مجد النصر العسكري وروح النصر الحضاري.
ففي اليوم ذاته الذي إجتاز فيه الجيش المصري مانع خط بارليف الحصين وعبر قناة السويس ، فإن مصر تعبر اليوم نحو ضفة جديدة من ضفاف التأثير الدولي لتؤكد أن النصر يمكن أن يترجم أيضاً في مضمار الفكر والمعرفة والثقافة.
ومنذ اللحظة الأولى لطرح الترشيح المصري ، وجه الرئيس عبد الفتاح السيسي ، بحسم وثقة ، أجهزة الدولة بدعم الدكتور خالد العناني في معركة انتخابية اتسمت بالتنافس الشديد والتعقيد الدبلوماسي ، إيماناً منه بأن وجود مصر على رأس المنظمة التي تقود الثقافة العالمية هو امتداد طبيعي لدورها التاريخي في بناء الحضارة الانسانية.
وقد تحركت الدبلوماسية المصرية بخبرة واقتدار ، بقيادة وزير الخارجية الدكتور بدر عبد العاطي ، وبتناغم وتنسيق واع ومتكامل مع كافة مؤسسات الدولة ، وبكفاءة مشهود لها لسفراء مصر بالخارج ، في العواصم المؤثرة ، بقراءة ناضجة للمواقف الاقليمية والدولية لضمان فوز المرشح المصري.
وحرص وزير الخارجية على التواجد في باريس ، حيث مقر المنظمة ، قبل الانتخابات بأيام لإجراء مباحثات شاملة ومكثفة مع ممثلي كافة الدول المعنية لضمان ترسيخ حالة الزخم والمساندة الدولية للمرشح المصري.
واتبعت الدبلوماسية المصرية نهجاً هادئاً ومدروساً جمع بين الإقناع والعلاقات الممتدة والاحترام الدولي الذي تحظى به القاهرة تحت قيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي ، وبتوظيف مكانة مصر الدولية وحقيقة كونها ركيزة سياسية للسلام العالمي ، مثلما كانت وستظل ركيزة للحضارة وعنوانا للتاريخ.
ويرى المراقبون السياسيون أن المشهد في باريس اليوم كان تتويجاً لهذا الجهد الجماعي الذي صاغته الدولة المصرية برؤية متكاملة تمزج بين حكمة القيادة السياسية والإرادة الثقافية والحنكة الدبلوماسية.
ويمثل الدكتور خالد العناني نموذجاً للعالم المصري الذي يجمع ، بمصريته وعلمه ووطنيته ، بين العمق الأكاديمي والإدارة الميدانية ، والقدرة على التواصل مع العالم بروح منفتحة.
فهو من مواليد القاهرة عام 1971 ، حصل على درجة الدكتوراه في علم المصريات من جامعة السوربون بفرنسا عام 2001 ، بعد أن تخرج من كلية السياحة والفنادق بجامعة حلوان ، حيث عمل أستاذاً ورئيساً لقسم الإرشاد السياحي ثم عميداً للكلية.
وتولى العناني وزارة الآثار عام 2016 ، ثم جمع بين حقيبتي السياحة والآثار عام 2019 ، ليقود مرحلة اعادة إكتشاف الكنوز المصرية أمام العالم ، ويشرف على المشروعات الكبرى لترميم وتطوير المتاحف والمواقع الأثرية وعلى رأسها المتحف المصري الكبير بالجيزة ومتحف الحضارة في الفسطاط الذي شهد نقل المومياوات الملكية في مشهد أبهر العالم.
وعرف العناني بقدرته على تحويل الأثر إلى رسالة إنسانية تتجاوز حدود الجغرافيا ، مؤمناً بأن الحضارة المصرية القديمة ليست ماضياً يعرض في متحف بل هوية ثقافية متجددة تنتمي للحاضر والمستقبل ، ورسخ ، خلال سنوات عمله الوزاري ، في وجدان العالم الثقة في قدرة مصر على صون تراثها ، فحصل على أوسمة وشهادات تقدير دولية من فرنسا واليونان واليابان وعدة منظمات ثقافية عالمية.
وإلى جانب نشاطه العلمي الواسع ، إذ نشر أكثر من خمسين بحثا ودراسة باللغتين الفرنسية والإنجليزية ، فقد لعب العناني دوراً محورياً في تعزيز التعاون بين مصر واليونسكو ، خاصة في مجالات حماية التراث المغمور بالمياه والتعليم المتحفي وتدريب الأثريين الشباب ، وهو ما جعل ترشيحه للمنصب يعبر عن كفاءة شخصية واضحة ورصيد دولي من الإحترام والثقة.
ويشير المحرر الدبلوماسي لوكالة أنباء الشرق الأوسط إلى أن اختيار العناني لقيادة اليونسكو لا يمثل نجاحاً شخصياً فحسب بل تتويجاً لرسالة مصر الحضارية عبر العصور ، فمصر التي علمت البشرية معنى الكتابة وقدمت للعالم أول مفهوم منظم للعدالة والخلود والإبتكار تعود اليوم لتقود المؤسسة الدولية التي تعنى بصون تلك القيم ذاتها.
ويؤكد مراقبون أن هذا الفوز يعيد رسم صورة مصر على الساحة العالمية كقوة ثقافية ومعرفية ذات تأثير دولي متزايد ، فمصر التي استضافت منذ سنوات منتديات شبابية وملتقيات ثقافية جمعت الشرق بالغرب تضع اليوم بصمتها في صميم المؤسسة التي تصوغ سياسات التعليم والثقافة والعلوم على مستوى العالم.
ويأتي فوز العناني قبل أقل من شهر من افتتاح المتحف المصري الكبير ، المشروع الثقافي الأضخم في القرن الحادي والعشرين الذي يمثل ذروة الجهد المصري في إعادة تعريف العلاقة بين الماضي والمستقبل كسلسلة تربطها حلقات مضيئة في تاريخ وحاضر ومستقبل الوطن.
ولعل القدر شاء أن يتزامن هذا الفوز مع اقتراب الافتتاح الرسمي للمتحف الجديد ، فيكونا وجهين متكاملين لقصة واحدة مفادها أن حضارة مصر تظل قِبلة وعنواناً لحاضرها.
وتدرك القيادة السياسية أن الاستثمار في القوة الناعمة ليس ترفاً بل أحد ركائز الأمن القومي المصري ، ومن هنا جاء هذا الفوز امتداداً طبيعياً لمسار الدولة في استعادة دورها الدولي من خلال الثقافة والتعليم والفكر والفن ، وهي المجالات التي تمثل جوهر رسالة اليونسكو ذاتها.
وتثق الدول العربية والأفريقية في أن تولي الدكتور خالد العناني هذا المنصب سوف يسهم بقوة في تعزيز الحضور العربي والأفريقي داخل المنظمة ، وفي تطوير سياساتها نحو مزيد من العدالة الثقافية وحماية التراث في مناطق النزاع وهي القضايا التي لطالما دافعت عنها مصر في المحافل الدولية.
وما من شك في أن منظمة اليونسكو تواجه اليوم لحظة تاريخية تواجه فيها تحديات جسيمة تتعلق بسبل حماية التراث الإنساني في ظل الصراعات وتغير المناخ ، وبناء نظم تعليمية عادلة تواكب الثورة الرقمية وغيرها.
ويأتي فوز مصر بهذا المنصب ليمنح المنظمة نفساً جديداً من روح الحضارة المصرية التي طالما جمعت بين الحكمة والإبتكار والتسامح ، فمن أرض الأهرامات التي خلدت عبقرية الإنسان إلى ضفاف النيل التي علمت العالم معنى الإستدامة والخصب ، تمد مصر اليوم يدها للعالم من جديد لتقول إن الثقافة هى جسر السلام وإن الحوار هو ميراثها الحقيقي للبشرية.
والواقع الاقليمي والدولي يؤكد أن فوز الدكتور خالد العناني بقيادة اليونسكو ليس مجرد انجاز دبلوماسي أو أكاديمي بل تجسيد لمعنى الرسالة المصرية في زمن العولمة ، حيث تصعد الحضارة الأقدم والأعظم لتقود المستقبل ، وحيث يتحول التاريخ إلى طاقة نور تدفع العالم نحو مزيد من الوعي الانساني والتقارب الثقافي.
وفي ذكرى نصر أكتوبر ، تعلن مصر نصراً جديداً لا ترفع فيه هذه المرة البنادق بل ترتفع فيه راية الفكر والمعرفة والحضارة لتجسد حقيقة أن رسالة مصر للسلام الإنساني لا تنقطع ، وأنها كما كانت وتظل دائماً وأبداً مهد التاريخ وضمير العالم في لحظة تتوق فيه رئة البشر والإنسانية في أنحاء العالم للإمتلاء والتشبع بالضمير.