منذ الصغر وفى السنوات الأولى من عمرى كنت أنتظر يوم السادس من أكتوبر دون أن أعى كطفلا أهمية هذا اليوم، الذى حققنا فيه أعظم انتصار في تاريخ مصر، ولكن حب والدى لهذا اليوم، جعلنى أنتظره كل عام، حيث يجلس فيه والدى ماهر صحصاح أمام شاشات التلفاز يتابع بلهفة الأفلام التسجيلية التي تحكى تفاصيل الحرب، خاصة الأعمال التي بها فيديوهات وصور حية من الحرب، أنظر إلى عين أبى وأجدها "مرغرة بدموع النصر"، لأنه يتذكر مالم أعرفه ويشعر بأحاسيس لن يشعر بها سوى جندى وقف على الجبهة وحارب بشجاعة وبسالة.
يسرح أبى في عالمه الخاص الذى عاشه في هذا اليوم بتفاصيله، فيأتى لى الفضول عاما بعد الأخر مع زيادة إدراكى بأهمية النصر العظيم وأسأله، فأجد أبى الذى تخطى عامه الـ 74 بارك الله في عمره، يتذكر كافة تفاصيل هذا اليوم بدقة عجيبة، قد ينسى محطات أخرى في حياته مر بها قريبا، لكنه لا ينسى تفاصيل الـ 6 من أكتوبر والـ 10 من رمضان عام 1973.
أبى الذى ألتحق بالجيش يوم 30 ديسمبر عام 1971 عندما كان بالفرقة الأولى بكلية التجارة جامعة طنطا، ليلتحق بالفرقة 22 ميكانيكى تليفون مركز تدريب الإشارة لينهى التدريب ويلتحق باللواء 116 صواريخ سام 6 بالجيش الثالث الميدانى في قيادة اللواء ليكون حكمدار سرية الإشارة، لم ينسى والدى تفاصيل أيام الجيش الذى قضاها حتى تخرج من الجيش في مطلع يوليو عام 1975 مع ثانى دفعة تخرجت من الجيش.
في يوم النصر العظيم يحكى لى أبى كل عام تفاصيل هذا اليوم وكله حماس وكأنه سيحارب مرة أخرى بعد ساعات، يتحدث بصوت عالٍ مرتفع يمتزج به القوة المختلطة بالسعادة واليقين، ويحكى وهو شديد الحماس، حيث مازال يخبرنى أبى أن هذا اليوم أسعد أيام حياته على الإطلاق عندما تم رفع العلم المصرى على الضفة الغربية، ولم يعش مثله منذ أن خلقه الله.
يتذكر أبى رؤساؤه وزمايله من الأبطال في قيادة اللواء بالجيش الثالث الميدانى، وبالأخص في يوم النصر العظيم، حيث يقول لى:"كان قائد اللواء بتاعنا اسمه العقيد صلاح الدين أبو الدهب، وكان قائد السرية النقيب إسماعيل المعداوى، وفى يوم 6 أكتوبر في الـ 12 ظهرا، اجتمع قائد اللواء بالضباط والعساكر وجميعنا واقفون أمامه على الجبهة، وقال لنا.."يارجالة مصر إحنا هنحارب"، وبمجرد سماعنا لهذه الجملة، تعالت هتافاتنا مرددين: "الله أكبر الله أكبر، ثم وقف قائد اللواء، وأخبرنا أنه تم إفتاء الأزهر بخصوص الفطار، وقال نفطر عادى، حيث كنا فى يوم الـ 10 من رمضان الذى تزامن مع 6 أكتوبر، وأخرج القائد طعام وأكل أمامنا حتى يشجعنا، فبعض الجنود فطروا وأخرين فضلوا استكمال الصيام".
ويستكمل حكمدار سرية الإشارة ماهر صحصاح حديثه قائلا:"وقف العقيد صلاح الدين أبو الدهب، يتحدث إلينا وقال:(كل واحد ياخد باله من ذخيرته وسلاحه ويقف في مكانه زى الأسد)، ويستكمل أبى حديثه :"انتظرنا بكل سعادة وحماس لحظة الحرب حتى جاءت الـ 2 ظهرا، وفوجئنا بفوج طيران كبير يمر من فوق رؤوسنا شمالا ويمينا في صف واحد وإتجاه واحد، كالصقور في السماء، حتى نَفَذَ سلاح الطيران وقواتنا الجوية ضرباتهم الأولى ورجع الطيران.. وهو راجع بقينا واقفين نبص عليهم، ونقول الله أكبر الله أكبر، وعندما بدأ الطيران الإسرائيلي بالرد، كانت تقوم قوات الدفاع الجوى بتدمير طيرانهم قبل أن يقذف صواريخه علينا، وكنت أجرى أنا وزمايلى الجنود على كل طائرة تسقط من العدو على أمل أن نجد فيها جنودا من الصهاينة لكننا نجدها مدمرة بالكامل، ولايوجد فيها سوى أشلاء فقط وقطع صغيرة من الطائرة المدمرة.
ويضيف أبى حديثه قائلا:" كنت أجلس في جهاز مع قائد اللواء في غرفة العمليات على جهاز لاسلكى اسمه كيبو o هذا الجهاز يصور السماء كلها طول وعرض، وعندما تظهر طائرة إسرائيلية كان قائد اللواء يبلغ بها على الفور، فيتم إلتقاطها في الجو على الفور، واستمرينا على هذا المنوال عدة أيام إلى أن تم اتخاذ قرار بوقف إطلاق النار بعد هزيمة العدو".
ويتحدث أبى عن زملائه يقول كان معنا ضابط مهندس اسمه سمير بدير كان عبقرى في كل شيء فربما لم أقابل مثله طيلة حياتى، فكان يتمتع بذكاء استثنائى، وكنا جميعا ضباط وجنود لا ننام ليلا ونهارا من شدة الفرح والسعادة بهذا النصر، فضلا عن الحماس الشديد الذى استمرينا عليه فكنا أسود على البر نريد طول الوقت أن نجرى ونأكل أى عدو أمامنا".
ماهر صحصاح