- شهادة من السويس: جندي يمسك مسمارا 12 ساعة في مياه القناة المتجمدة لإنقاذ معبر.. ورفاق يضحون بوجوههم لهدم الساتر.
- قصة "رقيب الصف" شهيد يروي تفاصيل الهجوم على "لسان بورتوفيق" قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة...
- الأطباء والجنود يتبرعون بالدم للجرحى.. وطيارون يجرون طائراتهم بأيديهم لإنقاذها من التدمير..
- الدكتور السيد عبد الباري: طبيب الاستطلاع الإلكتروني.. 4 ساعات فصلت بين الحياة والموت والتخطيط المصري أنقذ الأرواح..
- الدكتور إدوارد يوسف جبرائيل: من قلب السويس.. طبيب شاب يروي ملحمة "التصنيف" بين رصاص الحرب ورمال الساتر..
- اللواء طبيب محمود سامي سعد: أطباء الاستنزاف في بورسعيد "فقدوا أعينهم وأرادوا العودة للثأر"..
- الدكتور أحمد السعيد يونس: شهادة من "خدمة الأبطال".. فرحة "الله أكبر" في مستشفى القوات الجوية وكرامة الجيل المستعادة..
في أيام أكتوبر الذهبية عام 1973، لم تكن المعركة تدور فقط في خنادق القتال وسماء مصر، بل كانت تخاض أيضا في عيادات طبية متنقلة وغرف عمليات مؤقتة، حيث خاض أطباء مصريون شباب معركة موازية لا تقل أهمية عن معارك الجبهة الأمامية - معركة إنقاذ الأرواح وإعادة المقاتلين إلى ساحة الشرف.
بعد مرور اثنين وخمسين عاما على تلك الأيام المجيدة، تتكشف لنا اليوم شهادات استثنائية لعدد من الأطباء الذين عاشوا ملحمة أكتوبر من زاوية إنسانية مختلفة، ويروون لنا شهادات تنقلنا إلى كواليس الحرب الحقيقية، حيث كان الطبيب العسكري يحمل في يده مشرط الجراح وفي قلبه عزيمة المقاتل.
في السطور التالية، نعيش معهم في تفاصيل لم ترو من قبل، نكتشف من خلالها الوجه الآخر للحرب، حيث كانت أيادي الأطباء المصريين تعمل ليل نهار لترميم ما تهدمه الحرب، وحيث كانت قلوبهم تنبض بنفس إيقاع قلوب المقاتلين في خطوط النار الأولى.

الدكتور السيد عبد البارى
• الدكتور السيد عبد الباري:
يحدثنا الدكتور السيد عبد الباري، كبير أطباء الفوج الحادي عشر استطلاع إلكتروني خلال حرب أكتوبر المجيدة، عن تفاصيل استثنائية لم تحك من قبل عن دور الأطباء العسكريين في هذه الملحمة التاريخية، شهادته تنقلنا إلى أعماق التحضيرات السرية والمواقف الإنسانية التي عاشها أبطال الجيش الأبيض في أحلك اللحظات وأعظمها.
يصف الدكتور عبد الباري فترة الإعداد قائلا: "كنا قبل الحرب في حالة طوارئ حوالي ستة أشهر، ولم يكن أحد يخرج من الجيش"، ستة أشهر كاملة من التدريبات المستمرة ليل ونهار، حتى وصل الجميع لمرحلة التساؤل عن الهدف من كل هذا الاستعداد المكثف.
خلال هذه الفترة الحرجة، لم يكن التدريب مجرد روتين عسكري، بل كان إعدادا لمواجهة عدو يعرف كل شبر في الأرض المصرية، يوضح الدكتور كيف كان الوعي بخطورة التموضع التقليدي جزءا أساسيا من الاستراتيجية: "كل مجموعة تعمل بديلا للمكان الذي تعيش فيه، لأن هذه الأماكن مصورة عند إسرائيل ويعرفونها جيدا جدا".
في تفصيل يكشف عن دقة التخطيط المصري، يحكي الدكتور عن لحظة حاسمة: "قبل الحرب بحوالي ساعة، والحرب بدأت الساعة الثانية ظهرا، كنا في موقع بديل وأخذنا حاجاتنا وسيارات الإسعاف وسيارة النقل إلى مكان آخر بديل أعددناه في الجبل".
والمفاجأة المذهلة جاءت بعد ذلك: "المكان القديم تعرض للقصف بعد أن غادرنا بحوالي أربع ساعات، لدرجة أنهم قصفوا العيادة عندي، والصاروخ تحرف وأصاب عمود كهرباء وأسقطه، ولم يصب المبنى شيء"، لحظة تكشف عن أن الفارق بين الحياة والموت كان أربع ساعات فقط، وأن التخطيط المسبق أنقذ أرواحا لا تحصى.
يكشف الدكتور عبد الباري عن دور حيوي لوحدته لم يكن معروفا على نطاق واسع: "الاستطلاع الإلكتروني يشمل القوات الجوية والبحرية والبرية، فيه كل الأسلحة، وأسلحة مهمة جدا، لدرجة أنه إذا انطلق تيار من تل أبيب، كنا نحصل على معلومات تامة، لدينا الأجهزة التي ترصده".
الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فقد كانت المعلومات تصل بدقة مذهلة: "كنا نعرف أن الطيار فلان يقول أنه متجه لضرب المطار الفلاني مثلا، وكانوا يطلقون على المطارات والأهداف عندنا أسماء فواكه - رمان، جوافة"، ويضيف: "لا تتصور أن العساكر الذين عندي كلهم مؤهلات عليا، لم يكن هناك مؤهلات متوسطة، كلهم يعرفون العبرية والإنجليزية والعربية، ويجيدون العبرية جيدا جدا لأن أي تواصل بيننا وبينهم بالعبرية".
هؤلاء الجنود لم يكونوا مجرد عساكر، بل كانوا "خريجي ألسن أو خريجي كلية آداب قسم لغات، كل هذه كانت تخصصات لغوية عندي، يعني كل عسكري يجيد اللغة العبرية جيدا جدا، والأشخاص الذين يعملون على أجهزة التنصت يجلسون ثماني أو تسع ساعات واضعين السماعة على آذانهم يستمعون".
ويكشف عن تفاصيل مذهلة حول التحضيرات السرية: كانت المطارات البديلة تنشأ بطريقة إبداعية على الطرق السريعة، حيث "الجزء الذي في وسط الطريق كان مزالا تماما ومسطحا ليصبح مطارا بديلا"، التفاصيل أكثر إبداعا: "كان هناك مطار في أشمون، وقاموا بعمل المطار المجاور له مباشرة من بلدة أشمون حتى بنها، فأصبح كل هذا مسطحا لأي طائرة تريد أن تهبط وتتحرك عليه، وبجانب الطريق في الأراضي الزراعية، كنا قد أنشأنا هناجر للطائرات داخل الأراضي الزراعية".
في مواجهة الأسلحة المحرمة دوليا، اتخذت القيادة المصرية قرارا حاسما: "مستشفى الحلمية التي كانت مخصصة للعظام فقط، حولناها لعلاج الحروق من حروق النابالم"، ويشرح كيف كان العدو قد "أنشأ فوهات نابالم على سطح البحر وسطح النيل الذي بجانبنا كلها، والمخزن موجود في سيناء".
لكن التخطيط المصري كان أذكى: "قبل هذه الحرب بحوالي أربع وعشرين ساعة، نزلت الجنود أولا وعرفت الأماكن وقبل الحرب سددنا كل الفوهات التي على الماء، لذلك كان الجنود يعبرون دون مشاكل، ولكن لولا ذلك لكان السطح كاملا من النابالم".
وحول طبيعة الحياة اليومية في الجبهة، يقول: "كل عسكري عندما يحين وقت الراحة ينزل في حفرة دائرية عملها لنفسه، لم يعد هناك فرق بين ظابط وجندي، كل واحد له حفرة دائرية يذهب ليجلس فيها"، أما عن التحديات اليومية: "كانت المياه مشكلة بالطبع، كان للجندي أو الظابط أو الجميع قارورة ماء في اليوم كله في هذا الحر، وأحيانا نجد أن الواحد يلتقط حصاة أو شيئا ليضعه تحت فمه ليكون هناك رطوبة".
ويقول: "في يوم الحرب كنا جميعا نسأل متى سنحارب؟ لأن كل من كان موجودا لديه مشاكل عائلية، المتزوج لا يستطيع النزول للمنزل، الذي يريد الخطبة لم يتمكن من ذلك، يعني العساكر قضوا تسع سنوات في الثكنات"، ويضيف: "أنا كطبيب قضيت خمس سنوات، وكان ممنوعا الخروج، وعندما خرجنا صار علينا رقابة لأن هذا السلاح تابع للمخابرات، فكانت هناك رقابة عليك من بعيد بأي شكل".
يصف الدكتور السيد عبد الباري اللحظة التاريخية بتفاصيل حية: "في الساعة الثانية تلك، كنت جالسا في العيادة، ونحن لنا ستة أشهر ننام ونستيقظ وننام في هذه الأماكن، لم أكن أعرف أن الحرب بدأت فكنت جالسا مرتاحا في العيادة"، ثم جاءت اللحظة الفاصلة: "فوجئت برئيس العمليات قادما، ما الأمر؟ قال لي قم بسرعة هيا تحرك، ماذا يا عم هل قامت الحرب؟ قال لي نعم قامت حرب حقيقية، هل ستقوم أم أطلق عليك النار، فلا يوجد تفاهم، وقت الحرب لا يوجد تفاهم".
في أكثر المواقف إنسانية، يحكي عن لحظات اختبار الشجاعة الحقيقية: "إذا أصيب أحد على مسافة معينة ونحن نراه، والذي أصابه إسرائيلي سقط وسيموت أو مصاب، فهنا تظهر الشجاعة في من سيذهب ليحضره ونحن نعرف أن المكان مراقب ولا يزال تحت القصف"، ويضيف بفخر: "كان هناك موقع أمامي تعرض للقصف من بعيد وأرسلت أربعة يحملون نقالات أحضروه، لماذا؟ لأن هؤلاء الأربعة لم يقل أحد منهم لا لن أذهب، أو يسأل لماذا؟ لأنه يعرف العواقب، فالجميع ملتزم".
ويوضح فلسفة الطب العسكري في ظروف الحرب: "الحالات تكون كثيرة وليست بسيطة، الحالة التي تحتاج وقتا كنا ننقلها إلى المستشفى الميداني والميداني يحولها إلى المستشفيات الكبيرة"، ويلخص الدكتور عبد الباري شهادته، قائلا: "الحرب أعطتنا جرعة كبيرة من أننا لو حاربنا نستطيع أن نعمل شيئا، ليس بالكلام أو غيره، لدينا ناس، نحن كما أقول لك كانوا مؤهلين تأهيلا عاليا". وعن الروح المعنوية: "كانت الروح المعنوية فوق ما تتخيله، كانوا سعداء جدا، الجميع سعيد، فكل هذه أشياء يعني الجنود المصريين والحمد لله".

دكتور أدوار يوسف جبرائيل استشاري الباطنة بالسويس.
• الدكتور إدوارد يوسف جبرائيل
ويأخذنا في رحلة أخرى، الدكتور إدوارد يوسف جبرائيل، عندما انطلقت صفارات الإنذار في صبيحة السادس من أكتوبر 1973، لم يكن يعلم أنه على موعد مع التاريخ، كان طبيبا مقيما حديث التخرج في مستشفى السويس العام، لا يتجاوز عمره الرابعة والعشرين عاما، وكان يتأهب لمواجهة أصعب امتحان في حياته المهنية.
يقول الدكتور إدوارد - الذي يبلغ اليوم خمسة وسبعين عاما: "كنا ننتظر هذا اليوم منذ سنة 1967"، بهذه الكلمات البسيطة يلخص مشاعر جيل كامل من الأطباء المصريين الذين عاشوا هزيمة 1967 وهم طلاب في كليات الطب، ووجدوا أنفسهم في مواجهة مباشرة مع تبعات حرب الاسترداد.
في مستشفى السويس العام، المستشفى الوحيد الذي يخدم قوات الجيش الثالث المرابط على الضفة الغربية لقناة السويس، تحولت أقسام الاستقبال إلى مسرح عمليات طبية متواصلة على مدار الساعة، ويتذكر الدكتور إدوارد: "سيارات الإسعاف العسكرية كانت تصل كل دقيقتين تقريبا، محملة بجرحى من الفرقة التاسعة عشرة والفرقة السابعة".
تحت إشراف المرحوم الدكتور ناجي وديع، أخصائي الجراحة، تعلم الأطباء الشباب فن "التصنيف" - ذلك العلم الطبي الذي يحدد أولويات العلاج في حالات الطوارئ الجماعية، "إصابة بسيطة.. إصابة شديدة.. يحتاج أشعة فورية.. يحتاج تدخل جراحي عاجل".. كانت هذه هي المعادلة التي تحكم حركة الجرحى داخل المستشفى، حيث يجب إخلاء أسرة الاستقبال خلال دقائق لاستيعاب الدفعة التالية من الضحايا.
يشرح الدكتور إدوارد بنبرة علمية: "إصابات الحروب مختلفة تماما عن إصابات الحوادث المدنية، انفجارات، شظايا، طلقات نارية، حروق.. كل إصابة تتطلب تعاملا مختلفا وسرعة استثنائية".
في إحدى ليالي أكتوبر الباردة، وصل إلى المستشفى جندي من وحدة المعابر العائمة، تلك الوحدات الهندسية المسؤولة عن نصب الكباري الحربية لعبور الدبابات والمدرعات، يحكي الدكتور إدوارد بصوت يخالطه الإعجاب والأسى: "كان المسمار الحديدي الذي يربط بين أجزاء المعبر قد انفك، وهذا يعني انهيار المعبر بالكامل، فظل الجندي ممسكا بالمسمار بيديه العاريتين، ونصف جسمه مغمور في مياه القناة الباردة، لمدة 12 ساعة كاملة".
عندما وصل الجندي للمستشفى كان يعاني من "الغرغرينا الجافة" في النصف السفلي من جسمه، حيث توقفت الدورة الدموية بسبب البرد القارس.
يصف الدكتور إدوارد مشاهد وصول جنود وحدات "الخراطيم المائية": "لم نكن نعرف أن هناك أبطالا يضحون بوجوههم حرفيا من أجل الوطن"، كانت هذه الوحدات مسؤولة عن هدم الساتر الترابي الإسرائيلي باستخدام ضغط المياه العالي، "كانت الرمال المتطايرة من الساتر المنهار تصيب وجوههم مثل الرصاص، فتترك ندوبا عميقة وجروحا غائرة تشوه ملامحهم إلى الأبد"، لكنهم كانوا يواصلون العمل لأن فتح ثغرة في الساتر - البالغ ارتفاعه عشرين مترا وعرضه خمسين مترا - كان شرطا أساسيا لنجاح الهجوم.
في التاسع من أكتوبر، وصل إلى المستشفى رقيب صف مصاب إصابة بليغة، كان ضمن القوات التي هاجمت نقطة "لسان بورتوفيق" الحصينة، آخر نقاط خط بارليف صمودا، ويتذكر الدكتور إدوارد تلك اللحظات المؤثرة: "كان فاقدا للوعي بسبب فقدان الدم الشديد، لكن بمجرد وضعه على السرير بدأ يتحدث وكأنه في حلم، بدأ يحكي تفاصيل الهجوم على النقطة، كيف عبروا القناة في الظلام، وكيف تسلقوا التحصينات".
لكن عندما قلب الفريق الطبي الجندي لفحص الإصابات، اكتشفوا مشهدا مروعا: شظية حديدية ضخمة اخترقت ظهره وخرجت من كتفه الأيسر، وكل كمية الدم المنقولة إليه تسربت من الجرح، واستشهد بعد ساعات قليلة، لكنه ترك رواية كاملة عن بطولات لن يسجلها التاريخ الرسمي.
لم تكن المعركة الطبية في مستشفى السويس معركة فردية، فبحسب خطة طوارئ معدة مسبقا، تم تعزيز المستشفى بفرق طبية من المؤسسات الطبية الكبرى: فرق من كلية طب القصر العيني من أساتذة الجراحة والتخدير، ووحدات من طب الأزهر المتخصصة في جراحة العظام، وأطباء من مستشفيات التأمين الصحي بالإسكندرية من خبراء الطوارئ، ونخبة من طب عين شمس من استشاريي الجراحة العامة.
يوضح الدكتور إدوارد آلية العمل المعقدة: "كان نظام التناوب محكما، كل فريق يعمل لمدة 7 إلى 10 أيام ثم يحل محله فريق آخر، لضمان استمرارية الخدمة دون انهيار".
ويضيف: "لم نكن نعرف الليل من النهار.. فالمستشفى كانت نوافذها مغلقة بألواح خشبية بدلا من الزجاج لحمايتها من الشظايا، والإضاءة الداخلية تعمل على مدار الساعة... كنا ننام على أي سرير فارغ، أو على الأرض فوق المعطف الطبي.. نأخذ غفوة سريعة ونقوم لنكمل العمل.. لم تكن هناك إجازات أو راحة".
بعد 24 من أكتوبر، عندما فشلت القوات الإسرائيلية في احتلال مدينة السويس وقررت حصارها، دخل الفريق الطبي مرحلة أكثر صعوبة، تلك الفترة العصيبة التي استمرت 100 يوم كاملة: "انقطع نقل الجرحى إلى مستشفيات القاهرة، فتراكم في المستشفى أكثر من ستمائة جريح".
كان الجرحى من فئات متنوعة: عسكريون من الجيش النظامي، ومدنيون من عمال شركة البترول الذين رفضوا ترك مواقع عملهم، وفلاحون من القرى المحيطة التي تعرضت مزارعهم للقصف، ومقاتلون من المقاومة الشعبية التي تصدت للغزو الإسرائيلي للمدينة.
لم تسلم المهنة الطبية نفسها من الخسائر، فالدكتور محمد أيوب، مدير عام الشؤون الصحية في السويس آنذاك، استشهد متأثرا بنزيف حاد من قرحة المعدة بسبب الإجهاد والتوتر الشديد، يقول الدكتور إدوارد بحزن واضح: "كان رجلا في الخمسين من عمره، لكن ضغط العمل والمسؤولية قتلاه حرفيا".
لمنا مواجهة الموت وجها لوجه، تعلمنا أن نتخذ قرارات مصيرية في ثوان معدودة، تعلمنا أن نعمل تحت ضغط لا يحتمل.. بعد هذه التجربة لم تعد هناك أي صعوبة مهنية تخيفنا".
وبعد مرور نصف قرن على تلك الأيام الخالدة، يوجه الدكتور إدوارد، رسالة للشباب المصري: "مصر ليست مجرد بلد عادي، إنها أجمل بلد في العالم، وأقول هذا عن يقين لأن لي أقارب في أمريكا وكندا وفرنسا، لكن لا يوجد مكان في العالم مثل مصر.. عندما تحدث أزمة في أي دولة عربية، إلى أين يهرب الناس؟ إلى مصر.. لأنها الملاذ الآمن الوحيد، فحافظوا عليها".
• اللواء طبيب محمود سامي سعد
ويحكي اللواء طبيب محمود سامي سعد أن مشاركته في الأحداث العسكرية لم تقتصر على حرب أكتوبر فحسب، بل امتدت لتشمل حرب الاستنزاف، حيث كان متمركزا في بورسعيد، كانت تلك الأيام مليئة بالتحديات، إذ كان يأتي إليهم يوميا المقاتلون من عمليات الاختراق التي تقوم بها فرق الصاعقة، وكانت معنوياتهم عالية جدا، مما عكس الروح القتالية المرتفعة التي تميز بها المقاتلون المصريون في تلك الفترة الحاسمة.
عندما يتذكر اللواء طبيب محمود المواقف التي لا ينساها من تلك الفترة، يتأثر وهو يصف مشاهد بطولية يصعب تخيلها، كانت كلها مواقف جميلة، ضباط وجنود فقدوا أعينهم أو أيديهم، وجميعهم كانوا يريدون الخروج بسرعة ويقولون أنهم يريدون العودة مرة أخرى، رغم الإصابات الخطيرة التي حدثت لهم، كان الجميع يشعر أن لديه ثأرا يريد أن ينتقم له.
كان الفريق الطبي يضم أطباء الجيش إلى جانب مكلفين من الجامعة ومن وزارة الصحة، وكانت روح الفريق الواحد تسود بينهم، الجميع كان يعمل بحب 24 ساعة، وكانوا هم والجنود الذين معهم في الوحدات الطبية يتبرعون بالدم للجرحى، كان اللواء طبيب محمود يدخل ويعقم ويعمل في الجراحة مع زملائه الجراحين، متمركزا في القنطرة غرب، الناحية الثانية من القنطرة التي لا تقع في سيناء، حيث كان يعمل ضمن كتيبة طبية في الفرقة العسكرية المتواجدة هناك.
ويروي الدكتور محمود قصة عودته من ليبيا عشية الحرب، ضمن خطة الرئيس السادات في السادس من أكتوبر، كان معارا لمجلس قيادة الثورة في ليبيا من الجيش المصري، وعندما عادوا راكبين الطائرة قادمين إلى مصر، لم يذهبوا إلى بيوتهم بل توجهوا مباشرة، وفي اليوم التالي مباشرة كان يوم الحرب.
كانت طبيعة الحياة اليومية في ميدان القتال تعكس روح الأخوة والتكافل، كانوا يأكلون سويا ويشربون سويا وينامون سويا، والغارات كانت تأتي تضربهم سويا، فالجميع كان في مركب واحد. أكبر تحد واجههم كأطباء كان أن يقدروا على تقديم المعونة لأكبر عدد من الجرحى، وأن يحاولوا رفع معنويات الناس الذين معهم والذين يأتون إليهم، لكن الحقيقة أنهم هم الذين كانوا يرفعون معنوياتهم، فالعسكري هو البطل الحقيقي في هذه الحرب.
كانت طبيعة الإصابات التي يتعاملون معها معروفة ومتنوعة: الرصاص في الرجل وفي الصدر، والشظايا، والقنابل، وكان الفريق الطبي يتعامل معها بكفاءة واقتدار، وعندما توجه بكلماته للشباب المعاصر، جاءت بسيطة وعميقة في آن واحد، طالبا منهم أن يحبوا بلدهم فقط، وأن يروا الله في أعمالهم، لأن هذا جزء من حبهم لبلدهم.
.jpeg)
الدكتور حازم حسنى يوسف
• الدكتور حازم حسني يوسف
في الجانب الآخر من السماء، يسترجع الدكتور حازم حسني يوسف، الطبيب المتقاعد من القوات الجوية المصرية، ذكرياته من حرب أكتوبر المجيدة، حين كان شابا يحمل في قلبه حلم تحرير الأرض المصرية، وفي يديه مسؤولية الحفاظ على أرواح الطيارين الذين حملوا على أجنحتهم آمال شعب بأكمله.
كان الدكتور حازم في ذلك الوقت ضابطا طبيبا في القوات الجوية، يعمل في قاعدة أنشاص الجوية كطبيب لواء الاستطلاع الجوي، تلك الوحدة الحيوية التي كانت عيون مصر في السماء، لم تكن قاعدة أنشاص مجرد مطار عادي، بل كانت إحدى القواعد المتقدمة وقواعد القيادة المهمة، التي كانت تحتوي على أسرار عسكرية استراتيجية، حيث شهد اللحظات الأولى والتحضيرات النهائية لحرب أكتوبر.
بعد حدوث الثغرة، انتقل اللواء إلى مطار شبراخيت، وانتقل معه الدكتور حازم في رحلة محفوفة بالمخاطر والتحديات، حيث وصل إلى المطار الجديد في وسط قصف جوي إسرائيلي. وجد المطار يتعرض للقصف، ودخل المطار وهو يتعرض للضرب من القوات الإسرائيلية، مما جعله يشهد مناظر بطولية لا تنسى للطيارين الذين كانوا يجرون لإنقاذ طائراتهم.
يوضح الدكتور حازم أن دور طبيب الطيران في القوات الجوية لا يقتصر على العلاج فحسب، بل يبدأ من اللحظة الأولى لاختيار الطيارين، فهم الذين يكشفون على الطلبة الذين يتقدمون للقوات الجوية، وظيفة طبيب الطيران تشمل الكشف الدوري على الطيارين كل سنة، ومنحهم لياقة للطيران التي تشبه رخصة القيادة ولكن للسماء، وتصنيف الطيارين حسب أنواع الطائرات المختلفة بناء على حالتهم الطبية واستعدادهم الجسدي.
طب الطيران كان مختلفا عن الطب التقليدي، فالطيار أثناء الطيران يتعرض لظروف استثنائية تؤثر على جسمه بالكامل، من البصر والسمع إلى الضغط والقلب والعضلات، خاصة عند الطيران بسرعات مرتفعة والتعرض لتغيرات في الضغط ونقص في الأكسجين نتيجة الارتفاع.
في أيام الحرب، كان للدكتور حازم وزملائه طقوس يومية مقدسة، فكانوا يعدون الطيارين من قبل الطلعات ويحضرون شيئا يسمى التلقين قبل الطلعة، وهو المهمة التي ستتم في الطلعة، كان عليهم فحص كل طيار والتأكد من جاهزيته النفسية والجسدية قبل كل مهمة، ثم تقديم تقرير لقائد السرب بأن الطيار جاهز لأن يقوم بالمهمة، هذه المسؤولية الجسيمة كانت تحمل في طياتها ثقل الوطن كله، فكل قرار طبي كان يؤثر على مجرى المعركة.
كان لواء الاستطلاع الجوي الذي عمل به الدكتور حازم بمثابة عيون مصر في السماء، ووظيفته الأساسية أن يطلع قبل العمليات ليصور ميدان المعركة ويعرف مواقع العدو، بعد تنفيذ أي مهمة، سواء من القوات الجوية أو البرية أو المدفعية، كان اللواء يطلع مرة أخرى ليصور نتائج المعركة في نهاية اليوم، وهكذا كان يتابع سير المعارك لحظة بلحظة من خلال هذه الصور التي كانت تحلل لمعرفة ما حدث بالضبط. كان الوضع أشبه بمباراة تستمر ساعة ونصف، ففي كل لحظة كان هناك شيء جديد يحدث.
.jpeg)
الدكتور حازم حسنى يوسف
شهد الدكتور حازم لحظات لن تفارق ذاكرته أبدا، فرأى طيارين يستشهدون، وآخرين يخرجون في مهمات ولا يعودون، فتخرج فرق البحث للعثور عليهم، تذكر طيارا أصيب وطائرته ضربت وهو عائد قريبا من القاعدة، فخرجوا لإنقاذه، مر طيار آخر أصيب وأخذه ووصله، وعندما كانت حالته خطيرة عملوا له الإسعافات الطبية الأولية ثم أخذوه وأوصلوه لمستشفى القوات الجوية في القاهرة.
كان موقع الأطباء في المطارات محفوفا بالمخاطر، فهم كانوا يتمركزون في بداية المدرج، المكان الذي يستهدفه العدو أولا، حيث كان الطبيب موجودا على أول الممر، المكان الذي يضرب أولا لأن المطارات والممرات كانت الأهداف الأولى للعدو.
عندما سئل الدكتور حازم عن الروح المعنوية والتشجيع المتبادل بين أفراد الفريق الطبي، أجاب بعفوية مؤثرة أن أحدا لم يكن محتاجا لأن يشجعه الآخر، فقد كانت هناك روح جعلتهم ينسون الدنيا وينسون أهاليهم وينسون أنفسهم وينسون كل شيء، كانت حالتهم النفسية تشبه لاعب كرة القدم الذي ينسى حتى صوت الجماهير من حوله عندما ينزل الملعب، فكانوا ينسون كل شيء والقنابل تنزل فوق رؤوسهم وهم لا يشعرون ولا يهتمون بأي شيء، لا يوجد إحساس بأي شيء، فأهم شيء كان أن يكرمهم الله وأن يزيلوا ما حصل في السابع والستين وتنتصر مصر.
هذه الروح العالية لم تكن مقتصرة على الأطباء فحسب، بل شملت كل أفراد القوات المسلحة من العسكري إلى الطبيب إلى الطيار إلى الملاح إلى الموجهين الجويين الموجودين في البرج، إلى الميكانيكية والمهندسين والممرضين، فالناس كلها كانت بمنتهى الحماس.
كانت تلك لحظات لا يمكن لبشر أن يصدقها، حيث رأى الطيارين يجرون على طائراتهم أثناء القصف ليحركوها من على المدرج حتى لا تدمر، مشاهد بطولية تجسد روح التضحية والإصرار على النصر، كان ما حدث بعد هزيمة ألف وتسعمائة وسبعة وستين معجزة حقيقية في التاريخ العسكري، فلم تحدث في التاريخ أن بلدا تهزم في أول أسبوع والمفروض أن يحدث انهيار، إنما الجيش المصري وقف على رجليه في أول أسبوع وبدأ يعمل حرب الاستنزاف ولم يتركهم مرتاحين.
ويضيف: كانت التضحيات الشخصية هائلة، فالطبيب المفروض أن تكون له عيادته وناسه، لكن كل هذه الدنيا كانت لا تعني شيئا، لا عيادة ولا دنيا ولا أي كلام من هذا، فقد كانوا قاعدين هناك لا يرون أهاليهم ولا أي شيء، في زمن لم تكن فيه هواتف محمولة أو وسائل اتصال سهلة، كان الأطباء والجنود منقطعين عن أهاليهم تماما، لا يعرفون عنهم شيئا ولا يستطيعون طمأنتهم.

الدكتور أحمد السعيد يونس
• الدكتور أحمد السعيد يونس
في السياق نفسه، يسترجع الدكتور أحمد السعيد يونس، لواء أركان حرب طبيب سابق في القوات الجوية المصرية، ذكرياته من حرب أكتوبر المجيدة، مقدما شهادة حية على دور الأطباء العسكريين في استرداد الكرامة الوطنية، يوضح طبيعة عمل الأطباء العسكريين في القوات الجوية، فالأطباء هم الوحيدون الذين يمنع عليهم دوليا حمل السلاح، فهم غير مقاتلين، ومهمتهم تقتصر على الكشف على الطيار الذي يتعرض للإصابة أو يقفز من الطائرة، والتأكد من صلاحيته للعودة للطيران مرة أخرى.
كان دور الأطباء محوريا في تحديد من يستطيع الطيران ومن لا يستطيع، في ظل شروط صارمة لاختيار الطيارين، كانوا يكشفون على ستة آلاف إلى سبعة آلاف طالب ثانوية عامة، ويخرجون منهم ثلاثمائة فقط يصلحون لأن يكونوا طيارين، وعند دخولهم الكلية الحربية يتخرج منهم مائة طيار فقط.
عندما حانت لحظة إعلان عبور القوات المصرية، كانت المشاعر عظيمة، فجأة في الساعة الثانية، أذاع الراديو أن قواتنا عبرت إلى الضفة الشرقية، فكانت فرحة عظيمة وتهليل، والله أكبر صدحت في مستشفى القوات الجوية بالعباسية، هذه اللحظة كانت تحمل معنى خاصا للقوات الجوية، التي تحملت عبء اتهامات نكسة ألف وتسعمائة وسبعة وستين، فكانوا يستردون كرامتهم، لأنهم بعد السابع والستين لم يكونوا يخرجون وهم يرتدون الزي العسكري، لأن القوات الجوية حملت تهمة أنها السبب في الهزيمة، وهذا غير صحيح.
يشارك الدكتور يونس قصصا بطولية سمعها من الطيارين المصريين، منها قصة طيار تعرضت طائرته للإصابة من طيار إسرائيلي، فأراد الطيار المصري القفز وسحب جهاز فتح سقف الكابينة، لكن وجد أن الإصابة أثرت على السقف فلم يفتح. تشهد وتوكل على الله، واستمر في المحاولة حتى انفجر السقف وتمكن من القفز بالمظلة.
هناك قصة أخرى عن طلوع الطيارين في رحلة فوق الثغرة، حيث قاموا برمي القنابل عليها، والطيران كان على ارتفاع منخفض لضمان دقة الإصابة، رغم تعرضهم لنيران المضادات. كانت سرعة تعافي القوات الجوية بعد نكسة 1967 مذهلة، فكما يشير الدكتور يونس، في الخامس من يونيو انضربوا، وفي العاشر من يونيو كانوا جاهزين، وفي الخامس عشر من يونيو كان مبارك أبو العز قد أطلق طيرانا وضرب على إسرائيل في الضفة الشرقية، وجعلهم يتراجعون إلى الداخل.
كانت معركة المنصورة الجوية مصدر فخر خاص، حيث عمل الطيارون المصريون أعمالا غريبة جدا بطائرات أقل في السرعة وأقل في التجهيزات مثل الميغ سبعة عشر، وأسقطوا طائرات الفانتوم التي كان الأمريكان يتفاخرون بها.
ويصف الدكتور يونس دور الأطباء العسكريين بأنهم لسوا أبطالا، بل هم في خدمة الأبطال، وعملهم أن يرعوا المريض أو يقولوا من يطير ومن لا يطير، لكن هذا الدور كان له أثر نفسي عميق على المقاتلين، فالطيار الذي يتعب كان مطمئنا أن وراءه طبيبا سيرعاه، وهذا الاطمئنان كان عاملا مهما في رفع معنويات المقاتلين وثقتهم في أداء مهامهم القتالية.
أكد الدكتور يونس أن مشاركته في الحرب لم تكن تطوعا، بل واجبا وطنيا، فهو ضابط في القوات الجوية، وهذه مهنته، دخل القوات الجوية وهو ملازم أول طبيب بعد انتهاء سنة الامتياز، وكان شرفا أن ينتمي الإنسان لهذه المؤسسة بعد ثورة ألف وتسعمائة واثنين وخمسين، في القوات الجوية استفادوا وتعلموا وخرجوا في بعثات، والهزيمة كسرت نفوسهم، لكن في الثالث والسبعين كانوا يشعرون أنهم يستردون كرامتهم.
تبقى هذه الشهادات الحية وثائق تاريخية تحكي عن جيل من الأطباء العسكريين الذين وقفوا خلف أبطال حرب أكتوبر، يداوون جراحهم ويرفعون معنوياتهم، في قصة عظيمة من قصص التضحية والفداء التي صنعت نصر أكتوبر المجيد.

لوحة شرف شهداء الأطباء فى حرب أكتوبر