طازجة تحل الذكرى، كما كانت فى يومها الأول. لا ينطفئ وهجها ولا تتقادم؛ بل يُضاف إليها الجديد فى عامها الثانى والخمسين، وقد سيجت الإرادة المصرية حدود سيناء بالقوة الصلبة والناعمة، وما أبقتها بمنأى فقط عن مخططات الإزاحة الديموغرافية من غزة بالبارود والنار، إنما حافظت على القطاع نفسه ملكية خالصة لأهله، وانتشلت القضية الفلسطينية كلها، فيما كان يحملها الطوفان إلى المجهول، ويُدفّعها العدوان على طريق الضياع الأبدى.
ولا مبالغة مطلقا فى القول إنه انتصار ثانٍ؛ لأن ما كان يُراد طيلة الشهور الماضية لا يختلف فى شىء عن سابقة النكسة الثقيلة؛ بفارق أن الدروس وجدت من يعيها، وتراكم الخبرات لم يترك هامشا للخفة والارتجال.
سارت الدولة على الحبل الدقيق بين الفاعلية والانفعال، وأدارت معركة فُرضت عليها فى الزمان والمكان، بعقلٍ بارد وقلب مُتقد، وبكفاءة عالية كما لو أنها حددت الميدان وساعة المواجهة، ولم تتفاجأ بلعبة التصعيد وخلط الأوراق بين حماس والصهاينة.
وإذ يحتفل المصريون بعيد نصرهم المظفر على العدو؛ فما من دليل على حصانة الانتصار وثباته أكبر وأوثق من أننا نستضيف الجميع على طاولة أكتوبر اليوم، ومنهم المهزوم يُعاين أصداء هزيمته كأنها بالأمس القريب، لنرعى مسار إنهاء الحرب على غزة بالحد الأقصى مما أردناه، وبأدنى ما كان يطلبه طرفاها لدول الجوار.
فلا اتّسعت رقعة النار ولا أُطفِئت جذوة فلسطين، وما قالته القاهرة منذ اليوم الأول يُصار إليه اضطرارا بعد عامين من الخفة والاستخفاف والإبادة الجماعية المتوحشة.
لعلها مصادفة عابرة؛ وإن كنت لا أؤمن بالمصادفات. فخطة ترامب مطروحة على الطاولة منذ أسبوعين، وارتضاها نتنياهو على هامش زيارته للبيت الأبيض فى سبتمبر، لتتبعه حماس ليل الجمعة الماضية، وتطير الأنباء فى اليوم التالى ببدء ارتحال المبعوث الأمريكى ستيف ويتكوف، وتقاطر الوفود على مصر لبحث الإجراءات التنفيذية والزمنية لإنفاذ مرحلتها الأولى.
والأنباء المبكرة أشارت لانعقاد اللقاء الأحد، قبل أن يُرجئه بيان وزارة الخارجية إلى السادس من أكتوبر.
وحتى موعد كتابة المقال، لم يتحدّد المكان بعد. قيل إنه ربما يكون فى شرم الشيخ، ما يُضاعف من قيمة الرمزية موقعا وميقاتا؛ إنما حتى لو استُقر على التئام الجمع فى العاصمة، فإنها كانت مستوعب غرفة العمليات الحربية، ومن بعض مطاراتها خرجت أسراب الضربة الجوية، وفيها اتُّخذ قرار الحرب والسلم قديما، كما اتُّخذت كل القرارات الصلبة والمتحدية طيلة الشهور الماضية.
وقفت الإدارة المصرية وحدها تحذر مبكرا من مخطط التهجير، ورسمت خطوطا حمراء بالقول والفعل، واستدعت «حل الدولتين» إلى الواجهة فى قمة القاهرة للسلام، بعد نحو أسبوعين من أحداث الطوفان.
ولم يكن الأُصوليّون استفاقوا من نشوة المغامرة بعد، ولا تبيّنت نوايا الاحتلال صراحة، أو استرعى انتباه العواصم فى الإقليم وخارجه أن ما يجرى وقتها ليس كسوابق المناوشات فى أرجاء غزة، وأنه إن كان إعادة للتاريخ الذى يندر أن يكرر نفسه؛ فسيكون أقرب إلى النكبة الأولى، وليس لأربع حروب عرفها القطاع منذ الانقسام وانقلاب القسام على السلطة والسياسة.
دُفِنَ سِرُّ الطوفان مع صاحبه، والذين من بعده قد لا يعلمون، وإن علموا فلن يقولوا غالبا. لكن الوقائع لا تُرجح أنه كان مجرد عمل مقاوم بلا ذيول خارجية، أو لا تحركه الأيديولوجيا والأهواء.
طبيعة الهجوم وحجمه؛ ثم غياب الرؤية التالية لما بعد الرصاصة الأولى، يرجحان أنه كان ضربة عشوائية غير محسوبة، أو لغرض قُطع عليه الطريق ولم تُستَوف أشراطه المخطط لها.
أى كان محاولة لخلط الأوراق، تنوب فيها الحركة عن أجندة وافدة، أو تسعى لتصدير أزماتها إلى ما وراء الجغرافيا الفلسطينية. وسواء يعود الإخفاق إلى خذلان الممانعة، أو تعقّل دول الاعتدال؛ فإن ما كان مطلوبا من الخطة توقف عند الشرارة الأولى، ثم ارتد جحيما على العُزّل المنكوبين.
ويصح أن يُرَد إلى القلق من تنامى مسار الاتفاقات الإبراهيمية، أو القيد على مناكفات الشيعية المسلحة بعد الاتفاق بين طهران والرياض فى بكين.
أحس السنوار باستشعاره الفردى، أو بإملاء من شركاء الممانعة، أن السلام الاقتصادى يتقدم بديلا عن التسويات السياسية، وأن المنطقة آخذة فى التشكل على صيغة تُعطل مفاعيل الجبهة الأصولية، أو تستثنى القضية من ورشة التفاهمات والحلول المصلحية.
وعليه؛ ربما كان القصد إفساد الترتيبات البازغة فى مهدها، أو تحويل الفضاء الجيوساسى إلى بقعة ملتهبة تكسب فيها الفصائل من خسائر الآخرين.
لن أتحرج من التصريح بما أضمرته لعامين كاملين؛ ألا وهو أن تحديد تاريخ القفزة على أسوار غزة لم يكن بريئا تماما. يوم السبت، وفى أجواء موسم الأعياد اليهودية «عيد العرش»، وبطريقة تشبه عبور قناة السويس قبل ذاك اليوم بخمسين عاما.
ربما تقصدوا المماثلة سعيا إلى التبرّك بذكرى النصر العربى الوحيد على إسرائيل؛ لكن ما استشعرته أنه كان أقرب إلى المشاغبة ومحاولة الطمس، ولم تقصّر ماكينات الدعاية التابعة للحركة والداعمة لها عن تزجية الحدث بديلا عن الماضى، واعتباره فاصلا استثنائيا يُؤرخ به للتحولات الكبرى فى مسيرة الصراع.
وبدورها عملت تل أبيب على تحويله إلى هزيمة كاملة؛ كأنها تقتص من الذاكرة بأثر رجعى، وتلطخ وجه اليوم بالطين والدم؛ لتمنع المحتفلين بالتزامن معه مستقبلا من الاحتفال، حياء أو بالتعاطف المشوب بالأسى. وكلاهما لم يُحصل ما أراد؛ وإذا بهما معا على طاولة أكتوبر المصرية المجرّدة من الزيف والادعاءات.
مضت مصر طوال الشهور الماضية بقبسٍ من ضوء أكتوبر. بأمانة الدور تجاه الحق والعدل، وخبرة المُجرّب الذى يقتدر على الصدام؛ إنما يُرجئه لأنه يعرف تكاليفه الباهظة. حافظت على دبلوماسية عالية السقف؛ فيما كانت عيناها تتّقدان شررًا.
إنها المُقاتل الذى وقف فى تلك الأيام على كفّ الموت، والسياسى الذى مرّغ العدو بالسلاح والسياسة معًا، ولا يضع أحدهما فى موضع الآخر من دون حاجة، ولا حينما تقتضى الظروف رسم الخطوط الحمراء، وتفويت الفرص على الذئاب المُتحفّزة. كما لا يسهل تقليده، ولا إحلاله بدلاً عن الآخرين فى نزواتهم الطائشة.
تُقر حماس بأنها أخطأت وهُزمت، وتُوقع إسرائيل على اعتراف ضمنى بعجزها عن الانتصار أيضا. صحيح أنها دمّرت غزة، وأزهقت أرواح عشرات الآلاف، وتكاد أن تكون أجهزت على الحركة وفصائلها الرديفة؛ لكنها خسرت فى الاستراتيجية أضعاف ما راكمته بالتكتيك، وتضررت على صعيد الصورة والمكانة، وأثبت الزاحفون على بطونهم بين الردم والخرائب أنهم أقوى بالحق وبالثبات عليه، وأنهم نجحوا مع الجدار المصرى الراسخ فى إحباط مؤامرة العدو؛ وإن سددوا تكاليف استهتار حماس، وأتعبهم تطوع قادتها بالذرائع وتمضيتهم الوقت دون ارتداع بأنين الضحايا تحت القذائف والمجنزرات.
والنقطة السابقة لا أسوقها من منظور الرجعية الدينية، والمتأجحين عاطفيا من بقايا القومية ورواسب اليسار المقيم فى الستينيات وما قبلها؛ إنما القصد أن الاحتلال على كل مكاسبه المنظورة لم يصل إلى مُبتغاه من القضية وأهلها، ولا أوصل الفصائل لمرادها أيضا.
وبكل تصور عاقل؛ لا يمكن التبجح بأن إسرائيل مهزومة، بمعنى أن حماس منتصرة بالتبعية، وأن خطة ترامب وغيرها تسعى لأن تمنحها بالسياسة ما عجزت عنه بالحرب؛ لأن فى ذلك إهانة للتضحيات واستخفافا بالعقول، وافتراضا جهولا بأن بقاء شراذم من المقاتلين يغنى عن البلد كدولة أو مشروع دولة، وعن الأرض ومن عليها طالما ظلت الراية الخضراء مرفوعة وحناجر أصحابها صاخبة.
إذ فى بعض الحروب الغبية وغير العادلة، يحدث أن يخسر طرفاها معا، ويربح المُستبعَدون من حسابات الفريقين، أى القضية والشعب أولا، ثم الحاضنة التى جُرِّبَت لم تُفرِّط، ورَدَعَت من دون أن تُفْرِط، وخرجت سالمةً بنفسها وأُصول الأشقاء الثمينة من كمين رخيص حاكه العدو والصديق؛ إن كانت ثمة صداقة مع الأُصولية المَبنيّة على مُرتكَزٍ عدائى وعدوانىٍّ، وساعٍ دومًا لقيامته بإسقاط ما تبقّى من القوى الوازنة فى المنطقة؛ بل وفكرة الدولة الوطنية من الأساس.
وعندما يلتقى الخاسران معًا على طاولة مصر، وبينهما الوسطاء؛ فإن الانتصار الوحيد يُحسب للراسخين على أطلال بيوتهم، ولسيناء التى ظلت ظهيرا لهم لا وطنا بديلا.
إنها اللحظة التى تُستعاد فيها ذكرى الشهداء جميعا بفخر وإجلال، وترخص فيها الدماء الاضطرارية دفاعا عن الثوابت العليا، ومن دون إعفاء من كلفة النزوات والمغامرات واستباحة الأبرياء.
وكما أننا خرجنا فى مواكب النصر حاملين أطياف جنودنا فوق الهامات؛ فلن ينسى الغزِّيون قرابينهم المنزوعة غدرا وغيلة، وقد اختبروا بها مجددا ذاك العدو الذى يعرفونه واكتووا بناره طويلا، وعرفوا أنهم لم يكونوا على قيد الحياة بحماس وسلاحها، ولن يموتوا موتا أكبر بالخروج من الصراخ إلى التدبر، ومن التشظى إلى الوطنية الجامعة.
كانوا هنا قبل الحركة، وبعدها، وباقون هم ما بَقِى الزعتر والزيتون، والفضل فى البقاء يعرفُ صاحبَه ويُؤشِّر عليه، وينتسبُ له مهما شاغب المشاغبون.
البحث اليوم فى صفقة التبادل، وهى آخر ما تملكه حماس من إرث الطوفان والسنوار. وإذ أعدت ردّها على خطة ترامب بذكاء لا يُعرَف عنها، ومنحته ما يتطلع إليه عاجلا مع إرجاء النقاط الخلافية قليلا؛ فإنها ما تزال تتعثر بين الأفكار والبدائل ورسائلها الثلاثية: لبيئتها والإقليم والعالم.
رحَّبت بإطلاق الرهائن دفعة واحدة، وسكتت عن السلاح تماما، وأحالت ترتيبات الإدارة فى اليوم التالى إلى وفاق وطنى، مضت تتهرب منه وتبدد محاولات الوصول إليه لثمانية عشر عاما خلت.
وبينما يخرج موسى أبو مرزوق للإعلام جازما بأن السلاح لن يُسلّم إلا للدولة الفلسطينية، تحمل الكواليس أخبارا عن الاستعداد لإلقاء الثقيل منه فقط، وبين يَدَى قوّة أُمميّة أو عاصمة إقليمية بعينها.
وهو ما يُشير إلى حال من التخبط يعيشها المفاوضون؛ لأن الورقة الأمريكية قلبت لهم المعادلة المعتادة، وقررت أن تستخلص منهم الأسرى قبل بقية التفاصيل، والحركة تعرف أنها بعد إنجاز الشق المعجل؛ ستكون أكثر حرصا على الاتفاق فى نسخته الحالية من واشنطن وتل أبيب معا.
ولا يمكن القفز على استجابة ترامب السريعة لبيان الجمعة دون توقف وتدبر؛ ذلك أنه غض الطرف عن المضمر من الرسالة بشروط ناعمة أو احتيال خطابى، وحملها على القبول المطلق. ولا مجال لافتراض السذاجة فيه، أو أنه تعرض للتضليل من مُترجمى البيت الأبيض، والأرجح أنه علق بعد الحصول على تطمينات فى الكواليس، أو يُدفّع الغصة الكبرى لمعرفته أن الخطة ستمضى فيما بعد ذلك بالقصور الذاتى.
وبعيدًا من غايات التنظيم وأولوياته؛ فإنَّ الوفاق العريض من الدول العربية والإسلامية على الخطة لم ينظر أصلا إلى وضعية حماس فيها، وقد صارت خارج المعادلة بالفعل؛ اللهم إلا فيما تبقى لديها من رهائن.
والشاغل الأكبر لدى الجميع ينحصر فى وقف المقتلة وإنفاذ المساعدات، ثم شق طريق نحو التعافى وإعادة الإعمار، محمولا على ضمانات أمريكية بعدم التهجير أو احتلال القطاع. ما يعنى إعادة غزة بأمراضها ومراجعها إلى أقرب نقطة قبل الطوفان، ثم يتكفل الزمن بمداواة ما أوقعه بها الصهاينة، واستدرجوا الفصائل لتعينهم عليه.
وذلك؛ من دون رومانسية مفرطة فى النظر للمسار المقترح؛ إذ ما تزال المخاطر كلها قائمة، واحتمالات انقلاب نتنياهو على الصفقة أعلى من تسليمه بكل بنودها ومراحلها، لكنها مغامرة تتطلع إلى الهدوء من قلب النار، وليست كالطوفان الذى كان مقامرة استدعت النار لتعصف بالهدوء والهادئين.
معضلة حماس أنها لا تريد أن ترحل، وأن ما كان معروضا عليها من السلطة وتستنكفه، قد لا يعود مقبولا من الغريم الآن. أى أن تتخلى عن صفتها الميليشاوية وتنخرط فى لعبة السياسة تحت سقف منظمة التحرير، بما يفتح الباب لغسل سمعتها أمام العالم على خلاف ما تريد إسرائيل، وإبراء ذمتها من الطوفان أمام ضحاياه الغزيين، ثم أن تتسرب فى شرايين البيروقراطية وتتدرج فى القيادة؛ لتبتلع مكانة رام الله من الداخل بالوسائل الناعمة، بعدما عجزت عن اغتصاب موقعها وشرعيتها بالندقية والحنجورية.
وإذا كانت الكيانية الحماسية نفسها ليست موضع ترحيب؛ فلا سبيل لهذا إلا بالاختراق الفردى، مع ما يترتب عليه من انحلال بطىء ومُتدرّج، قد يُذيبها فى عدوِّها الفلسطينى اللدود، بقدر ما يُهدّدها التصلُّب والتعالى على قيود اللحظة بالذوبان فى جحيم العدو الإسرائيلى.
لا مجال للالتفاف على خطة ترامب، ولعلها تكون الفرصة الأخيرة لاستنقاذ ما تبقى من الحركة، وإعفاء القطاع من خسائر لم يعد قادرا على تحملها. قد يُقبَل البحث فى بعض بنودها، وتحديد الآجال أو استعجالها، إنما الملامح الأساسية لن تتغير غالبا؛ وإن وُعد الحماسيون بهذا فسيكون على سبيل المناورة والخداع.
لم تتقبل إسرائيل بقاءها عندما كانت أشد قوة وفاعلية، وكان خزّان أسراها مليئا بأحياء أضعاف ما عليه عددهم اليوم. وباستبعاد تلك الورقة فى فاتحة المسار؛ فأية مشاغبة لاحقة ستكون تصريحا بإطلاق اليد من دون رادع، واختبارا لمرحلة حربية ربما تتجاوز سابقاتها؛ أقله لأن بواعث نتنياهو الشخصية على حالها.
ووقتها؛ لن يكون واقعا تحت ضغط الغاضبين من ذوى الرهائن، فضلا على أن الشارع العبرى فى أغلبه يتنفَّس يمينية مُتطرَّفة، ويطلب إبادة الفلسطينيين جميعا، وبعد استخلاص عناصرهم سينحازون فى الغالب للتوحُّش وثيق الصِّلة بكينونتهم الدولتية منذ التأسيس. ما يعنى أن الاختيار الذى يُقرّه مُفاوضو حماس الآن؛ سيكون تذكرة إجبارية للخروج من المشهد جَبرًا أو اختيارًا.
لا يشترى الوقتَ أو يُقطّعه؛ إلّا الرابحون من إطالة الحبل وإلقائه على غارب الغيب والمصادفات. والفصائل استنفدت ما بحوزتها، وأقصى ما يُمكن أن يوافيها به الحلفاء.
نتنياهو معه آلته الحربية الغاشمة، وغطاء الولايات المُتّحدة الذى لا ينسحب ولا يتفسّخ. ولو قدّمت حماس ما يُطلَب منها اليومَ قبل سنة؛ لربّما أعفت بيئتها من نحو ثلاثين ألفا أُضيفوا للائحة الشهداء، ومن إدارةٍ دوليّة بمواقيت غير مُحدَّدة أو مُلزِمة.
سيقول القائل الذكى إن نتنياهو لا أمان له، وقد انقلب على هُدنة يناير، والغالب أنه وقتها كان سيأكل ويُنكر، ويواصل بطشه المفتوح لأنه مشبوك بخيوط وراء القطاع.
وهذا ما ينطبق على الجولة الحالية أيضًا، ويرتدَّ بالضرورة على الطوفان نفسه؛ لأنه أقاله من الغضبة الداخلية، وفتح له الطريق إلى لبنان والشام ومعقل المُمانعة الحصين فى هضبة فارس؛ ولولا السنوار لكان الرجل سجينًا أو حبيس بيته الآن، وأقصى الاحتمالات أنه كان سيتآكل ويَذوى ببطء لحين تشييعه تمامًا فى صناديق 2026.
تسلّمت حماس القطاع مريضًا؛ فأوصلته إلى حال القعود أو الجثة الهامدة. عشرون عامًا ما حرّكته للأمام، واليوم تُعيده إلى ما قبل أوسلو والسلطة والانتفاضتين.
ادّعاء النصر لا يُهين القضية وضحاياها فحسب؛ بل يُعبّر عن عِلّة فى الوعى، ومخاطر عميقة تُمثّلها الأصولية على فلسطين اليوم وغدا؛ لأنها تنطلق من تُرّهات أيديولوجية تحتكرها وحدها، وتُمَوضِعُها فوق الثابت الوطنى، وتُقيمُ بها وجوبيًّا فى الماضى العتيد، والمواجهات الصفرية غير القابلة للحسم، وغير القادرة أو السامحة بالمراوغة والإفلات وتطوير الأدوات.
إن صح الظنّ بأن السنوار أراد إثارة الغبار فى فضاء أكتوبر المصرى؛ فقد أعادت الحوادث الاعتبار للحدث الأجلّ والأشرف فى ماضى المنطقة وحاضرها، وربما فى مستقبلها البعيد أيضًا.
وبافتراض التحامل على الرجل وحركته؛ فإن نتنياهو من جانبه أراد تشويه الذكرى بأثر رجعى، وترحيل الشهر من صفحة الفخار إلى صفحة العار، وعلى كثرة الذين ولغ فى دمائهم؛ فإنه ما نجح فى غايته بإضافة سيناء إلى قائمة الضحايا، وطنا بديلاً أو طرفًا فى معركة مُصنّعة، ما يعنى أنه بانتصاره على حماس، هُزِم مُجدّدًا أمام مصر.
نُرمِّم مواجع الأشقاء على طاولة أكتوبر، ونُجدّد وجيعة الأعداء. لا شماتة لأن الضحايا أهل وجوار، ولا زهو لأننا فعلنا ما يتوجّب فعله، وتلك عادة مصر التى ما أخلفتها ولا خالفت قوانينها السامية.
فى اليوم نفسه، وعلى التراب الذى كان مَطمعًا وضحيّة؛ يحلُّ الصهاينة ليُجفّفوا شيئا من عارهم الأبدىّ، ويَروا الحقيقة مُجرّدةً من كلِّ شائبة وادّعاء؛ إذ لا تقول القاهرة إلَّا ما تقدر عليه، ولا يُمْضَى فى فضائها الحيوىِّ إلَّا ما تريد. والدليل أكتوبر العبور قديمًا، وأكتوبر غزة وفلسطين الآن.