تمر اليوم ذكرى تتويج الإمبراطور هرقل، أحد أعظم قادة الإمبراطورية البيزنطية وأكثرهم حضورًا في التراث العربي والإسلامي، حيث لا يزال اسمه يرتبط بمرحلة مفصلية في التاريخ، جمعت بين انتصاراته على الفرس، وتواصله مع النبي محمد، وظهوره المميز في التفسير القرآني والحديث النبوي.
تُوّج هرقل إمبراطورًا على بيزنطة في الخامس من أكتوبر عام 610م، في وقتٍ كانت فيه الدولة البيزنطية تواجه واحدة من أسوأ أزماتها التاريخية؛ فالحروب المدمرة مع الفرس أرهقت الخزانة والجيش، واحتل الفرس بلاد الشام ومصر وآسيا الصغرى.
لكن هرقل، الذي ورث دولة مهددة بالسقوط، تمكن خلال عقدين من الزمن من تحويل الهزائم إلى انتصارات، وإعادة رسم خريطة القوة في الشرق القديم.
خلّد القرآن الكريم ذكر هرقل بشكل غير مباشر في مطلع سورة الروم: (الم، غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الأَرْضِ، وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ).
فقد كانت تلك الآيات بشارة للمسلمين في مكة بانتصار الروم (البيزنطيين) على الفرس، بعد أن منيوا بهزيمة قاسية. وقد تحققت النبوءة بالفعل عندما قاد هرقل حملته الكبرى عام 627م ضد الفرس، وانتصر عليهم في معركة نينوى، ليعيد للإمبراطورية هيبتها المفقودة.
واعتبر المفسرون هذا النصر علامة إلهية تؤكد أن الحق لا يضيع، وأن المؤمنين سيفرحون بنصر الله ولو من خلال أمةٍ غير مسلمة، لأنها كانت أقرب إلى التوحيد من الوثنية الفارسية.
في السيرة النبوية، يُذكر أن النبي أرسل رسالة إلى هرقل يدعوه فيها إلى الإسلام.
ونقلت المصادر الإسلامية – ومنها ابن إسحاق والطبري – أن هرقل تلقى الرسالة باحترام، وأنه أبدى اهتمامًا صادقًا بما جاء فيها.
وتنقل بعض الروايات أنه قال: "لقد علمت أنه النبي الذي بشّرنا به عيسى بن مريم"، إلا أنه تراجع عن إعلان إسلامه خشية تمرد قادة جيشه ورجال الكنيسة عليه.
كما تُروى عنه رؤيا رآها في المنام حول «أمة يقودها رجل مختون تنتصر على أعدائها»، وهي الرؤيا التي فُسّرت لاحقًا على أنها إشارة إلى ظهور الإسلام وتمدده.
على الصعيد العسكري، كان هرقل واحدًا من أعظم الاستراتيجيين في التاريخ البيزنطي. فبدلاً من ملاحقة جيوش الفرس داخل أراضيه، قاد حملة جريئة إلى عمق بلاد فارس، وهاجمهم في عقر دارهم.
وفي معركة نينوى عام 627م، ألحق بهم هزيمة ساحقة، أدت إلى اغتيال كسرى الثاني على يد ابنه شيرويه، الذي سارع بعقد صلح شامل مع بيزنطة سنة 628م، أعاد بموجبه كل الأراضي المحتلة في الشام ومصر والجزيرة الفراتية.
وعند عودته إلى العاصمة القسطنطينية، استقبله الشعب استقبال الأبطال، وخرجت المواكب تحمل أغصان الزيتون وترتل المزامير، في مشهدٍ مؤثر يعكس مكانته كقائد خلّد النصر بعد يأس.
على الرغم من أن هرقل واجه المسلمين لاحقًا في معارك الفتح الإسلامي، مثل اليرموك (636م)، إلا أن التراث العربي والإسلامي أنصفه، ووصفه بأنه ملكٌ عاقل، حكيم، وصاحب بصيرة.
فقد قال عنه ابن كثير في البداية والنهاية: «كان من أعقل الرجال وأحزمهم رأيًا»، ووصفه ياقوت الحموي بأنه «أدار الإمبراطورية بروح قيادية عظيمة».
أما الروايات الشعبية في شرق إفريقيا فقد خلدت سيرته في مخطوط سواحلي يُعرف بـ “كتاب هرقل” يعود إلى عام 1728، يتحدث عن حروبه مع الفرس وصلته المبكرة بالإسلام.
في عهد هرقل، شهدت بيزنطة تحولًا لغويًا وثقافيًا لافتًا؛ إذ أصبحت اللغة اليونانية اللغة الرسمية للإدارة بدلاً من اللاتينية، واختفت الألقاب اللاتينية من المراسلات والمراسيم الإمبراطورية، ما اعتُبر بداية التحول من الإمبراطورية الرومانية إلى البيزنطية الشرقية ذات الهوية الإغريقية الخالصة.