في زمن تتسارع فيه المتغيرات، وتزداد فيه التحديات الاجتماعية، أصبح الحديث عن "المسؤولية المجتمعية" ضرورة حتمية لبناء مجتمعات مستقرة، قائمة على احترام القانون، وتعزيز القيم، وحماية النسيج الاجتماعي من التمزق. لكن السؤال الجوهري هنا: من أين تبدأ هذه المسؤولية؟ والجواب، بكل بساطة ووضوح، هو: من البيت.
الأسرة هي اللبنة الأولى في بناء المجتمع، وهي المؤسسة التربوية الأولى التي يتلقى فيها الطفل دروسه الأولى في الانضباط، والاحترام، والتعاون، والحق والواجب. إن الطفل الذي ينشأ في بيت يقدّر النظام، ويحترم الآخر، ويُعلِّم الحوار، سيكون بطبيعة الحال مواطنًا مسؤولًا حين يكبر.
المواطنة الصالحة لا تُزرع فجأة عند أبواب المدارس أو الجامعات، بل تُروى منذ اللحظة الأولى التي يرى فيها الطفل والده يلتزم بقواعد المرور، أو يسمع والدته تتحدث باحترام عن الآخرين، أو يلاحظ كيف يعتذر الكبير قبل الصغير حين يخطئ.
كثير من الأسر تمارس التوجيه اللفظي بكثافة، لكنها تهمل الأثر العميق للسلوك العملي. فكيف نطلب من الطفل ألا يكذب، وهو يسمع والده يكذب على الهاتف؟ وكيف نلقنه احترام الوقت، ونحن لا نحترمه أمامه؟ في التربية، لا شيء يرسخ في ذهن الطفل أكثر من القدوة. إنها اللغة التي لا تحتاج إلى شرح، والتأثير الذي لا يُمحى.
قد يتخرج الأبناء من أعرق الجامعات، ويحملون أرفع الشهادات، لكن دون قيم راسخة لن يكونوا مواطنين صالحين. فالقيمة الحقيقية للتعليم لا تكمن في الدرجة العلمية، بل في ما إذا كان هذا المتعلم سيحترم دوره في مجتمعه، ويحرص على حقوق الآخرين كما يطالب بحقوقه.
علينا أن نربّي أبناءنا على إنهم هم المجتمع. هم الذين يصنعونه بأفعالهم اليومية، بقراراتهم، بطريقة تعاملهم مع البيئة، والشارع، والخدمات العامة. المسؤولية لا تقتصر على الدولة، ولا تُنقل بالكامل إلى المدرسة، بل تبدأ من البيت حين يُعلَّم الطفل ألا يرمي القمامة في الطريق، أو حين يتعلم احترام عامل النظافة.
المواطن الصالح لا يُصنع في مراكز التكوين فقط، بل في حضن الأسرة، في تفاصيل الحياة اليومية، في الكلمات التي تُقال، والمواقف التي تُعاش، والرسائل التي يتلقاها الطفل عن العالم من حوله. وإذا أردنا مستقبلًا أكثر استقرارًا، وأكثر وعيًا، فعلينا أن نبدأ اليوم بتربية هذا المواطن، بدءًا من البيت.