مع حلول شهر أكتوبر، نستعيد بكل فخر وعزة ذكرى حرب أكتوبر المجيدة، التي تركت بصمة لا تُمحى في تاريخنا الوطني، لكن هذا الاحتفال لا يقتصر على استذكار النصر فقط، بل هو فرصة لنتأمل الإنجازات الحقيقية التي تعيشها مدننا، وعلى رأسها شمال سيناء، التي تحولت خلال السنوات الأخيرة إلى لوحة نابضة بالحياة، متجددة ومتألقة.
العريش، عاصمة شمال سيناء، لم تعد مجرد نقطة جغرافية على الخريطة، بل تحولت إلى مدينة خلابة تحتضن كل من يزورها بأجواء من الجمال والتاريخ والإنسانية.
تنتشر في أرجاء العريش أحياء متجانسة بين الماضي والحاضر، من حي المساعيد إلى ضاحية السلام، ومن أبو صقل إلى كرم أبو نجيلة، حيث تمتزج البساطة بروح العطاء.
شوارع العريش تروي قصصًا لا تنتهي، تُحكى على وجوه المارة المبتسمين، الذين يعكسون دفء المدينة وقلبها الكبير، ليس الجمال فقط في المباني الحديثة أو في تخطيط المدينة، بل في النخيل الممتد الذي يقف كحارس على أطراف الشاطئ، وشاهد صامت على تاريخ المدينة العريق.
عند الكورنيش، حيث يلتقي البحر بالرمال، يتنفس الزائر عبير النخيل، وتهمس له النسائم بأن العريش ليست فقط شاطئًا أو مدينة عادية، بل هي قلب نابض بالحياة، يُحيي الروح ويمنح الأمل.
هناك، في متحف التراث البيئي، تتنفس المدينة ذكرياتها، تسترجع الحكايات والأساطير التي لطالما انتقلت من جيل إلى جيل.
"مدينة العرش"، كما كانت تُعرف قديماً، تحكي عن نفسها بأحداث تاريخية عظيمة؛ يُقال إن يوسف عليه السلام استقبل فيها إخوته، وأن إبراهيم عليه السلام نصب فيها عريشًا، واعتُقد أن بها قبور عشرة أنبياء، مما يجعلها ليست فقط مكانًا جغرافيًا، بل رمزًا روحيًا متجذرًا في الذاكرة الجمعيّة.
وعلى مدار السنوات، نجح أهل العريش في الحفاظ على هذه الروح، فأصبحت المدينة رمزًا للبساطة والطيبة، حيث يعيش سكان أحيائها مثل الفواخرية والسمران قلوبًا نابضة بالحب والكرم.
هناك، حيث تختلط قصص الماضي بأصالة الحاضر، تجد أن الكبار والصغار يجتمعون على دفء الشاي، يروي كل منهم حكايته، وتنمو الروح الوطنية في أحياء آل أيوب وعاطف السادات، حيث تمتزج الأحلام بالغد والتطلعات في نسيج واحد من الانتماء والولاء.
في قلب هذه المدينة، تحتضن الذكريات شخصًا عزيزًا كان له دور بارز في ربط الشمال بالجنوب، عمي الراحل عبد الرحمن عبد الراضي، مدير العلاقات العامة بمحافظة شمال سيناء.
في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، وصل عمي عبد الرحمن إلى العريش حاملاً حقيبة مليئة بالأحلام، ولكن قبل كل شيء، محملاً بروح إنسانية عظيمة، كانت العريش حينها واحة هادئة، نسيمها يلفح القلوب، وموجها يهدئ الأرواح، عبد الرحمن عبد الراضي لم يأت فقط ليعمل، بل ليزرع بذور الحب والكرم والانتماء في تربة المدينة.
كان عبد الرحمن هو "عبور العبور" الحقيقي، عبور من جنوب مصر إلى شمالها، عبور من الماضي إلى المستقبل، عبور يروي قصة الوفاء والإنسانية، بخطاه الثابتة، رسم جسورًا من الأمل والتفاهم، فتعلّم سكان العريش أن وطنهم ليس فقط جغرافيا، بل كيان حي يتنفس بالعلاقات الإنسانية.
عبد الرحمن عبد الراضي، الرجل الذي رسم "عريشه" الخاص، حيث تلاقت القلوب والأحلام، وصنع من العريش منزلًا ثانيًا، يروي لنا درسًا عميقًا في معنى الانتماء، رحل عمي عبد الرحمن، لكن عبوره لم ينتهِ، فهو باقي في كل شارع، في كل منزل، وفي كل قلب يعشق العريش.
اليوم، العريش ليست فقط مدينة على أطراف الوطن، بل قصة مكتوبة بأيدي أهلها الذين بنوا مستقبلاً مشرقًا، وزرعوا الأمل في أرض كانت يوماً بعيدة.
هي روح الحياة التي لا تتوقف عن العطاء، صفحة مشرقة في كتاب الوطن نرويها بفخر للأجيال القادمة، العريش أصبحت عنوانًا للإنجاز، رمزًا للصمود والتجديد، ومثالًا حيًا على قدرة الإنسان على تحويل الحلم إلى واقع.
في ذكرى أكتوبر المجيدة، نحتفي ليس فقط بالنصر العسكري، بل بالنصر الذي يتجسد في بناء الإنسان والمدينة، في عيون أجيال تحمل روح أكتوبر في قلبها، وتسير بخطى ثابتة نحو غد أكثر إشراقًا، لتظل العريش حكاية لا تنتهي من الجمال والتاريخ والإنسان.