يفاخر أساتذةُ القانون طلابَهم وهم يحاضرونهم في دروسهم الأولى عن خصائص القاعدة القانونية بأنها قاعدة "مجردة".. وهى بلا شكٍ مفاخرة في موضعها، إذ يعني "التجريد" في أبسط معانيهِ تطبيقُ القاعدة بشروطها على كل الأطراف.. سواء كانوا جناة أو مجنياً عليهم أو شهوداً...
دون النظر إلى أشخاصهم... من أجل ذلك وضعت حاملةُ ميزانِ العدالةِ على عينيها عُـصابتَها المقدسة، كي لا ترى إلا الواقعة بتفصيلاتها وشروطها فتقضي فيها بجلال وموضوعية وحياد...
والتجريدُ هو الحصنُ الحصينُ ومعيارُ الشفافية في القاعدة والذي يحفظ للعدالة موازينها... إلا أننا في بعض الحالاتِ الاستثنائيةِ النادرةِ نتمنى لو ألقت العدالةٌ من خلف عصابتها بنظرة إلى بعض أطراف الواقعة... أما وأن العدالةُ منزهةٌ عن ذلك، فإن الأنظارَ تتجهُ إلى المشرع لتناشده أن يزودها بقواعد مميِّزة ترعي خصوصية هذه الحالات.
وقد أطل علينا عبر وسائل التواصل الاجتماعي مشهدُ صفعِ أحد المسنين على وجههِ بمدينةِ "السويس" في مشهد يفيض بالصدمة... إذ صفعه شخصٌ بواحدة على وجهه... وتماسك الرجل، وأبت عليه كرامته أن يصيح أو يتحسس ألمَه، ليتلقى الصفعة الأخرى صامداً بوجهٍ يكسوه الثباتُ ولحيةٌ ناصعةُ البياض... بينما يتناهى إلى الأسماع صوتٌ نسائيٌّ جازعٌ ينعي حال الرجل وهيبته الأسرية، وسط حضورِ مخزٍ للمتواجدين...
الذين لم تأخذ أحدهم النخوة فيكبـِّل الجاني... أو يرده عن فعله... أو حتى يشيح في وجهه أو يزجره أو يلومه... هذا المشهد الذي أدمى قلوب الملايين من أصحاب الشهامة والنخوة والمروءة.
ويكيف القانون الواقعة -كما جاءت بمقطع الفيديو- بالضرب البسيط دون استخدام أداة ودون وقوع إصابة، ويندرج ذلك تحت نص المادة 242 عقوبات مع صورة أخرى تلك التي تخلف جروحاً فتنص الفقرة الأولى من المادة المذكورة على أنه "إذا لم يبلغ الضرب أو الجرح درجة الجسامة المنصوص عليها فى المادتين السابقتين يعاقب فاعله بالحبس مدة ل تزيد على سنة أو بغرامة لا تقل عن عشرة جنيهات ولا تجاوز مائتي جنيه مصري" كما يتيح القانون في مثل هذه الحالات -لا سيما إذا لم تتخلف عن الواقعة جروح- التصالح لتنقضي الدعوى الجنائية...
ولقد انتصرت الدولة لمقتضيات العدالة وللشعور العام المفعم بالحزن والغضب... فتم القبض على المتهم خلال ساعات، وباشرت النيابة العامة التحقيق، وبحثت ما يمكن أن تشكله الواقعة من سلوكٍ ينضوي تحت طائلة التجريم بمواد أخرى... وذلك بتقصي كافة أبعادها، ثم جاء قرار حبس المتهم احتياطياً على ذمة القضية والذي نزل برداً وسلاماً على القلوب الحزينة مؤكداً جدوى وأهمية وضرورة "الحبس الاحتياطي" كإجراءٍ قانونيٍّ صميمِ ورادعِ وناجزٍ وأداة هامة لإقرار السكينة لدى الشعور العام.
قد تكون العقوبات المقررة بالمادة 242 سالفة الذكر ملائمةً وكافيةً في حالة المشاجرات العادية المتكررة يومياً، ولكن استثنائية هذه الواقعة تكمن في أن جسامتها القانونية لا ترقى إلى جسامتها المجتمعية، وهو الأمر الذي نرى معه ضرورة أن يتدخل المشرع بالتشديد على الجرائم التي تنتهك القيم الأصيلة للمجتمع والتي تثير استهجاناً عاماً والتوسع في حماية الفئات ذات الحساسية...
وأيّاً كان المآل القانونيًّ بالقضية.. فقد أصدرت المشاعر الطيبة الحكم بشأنها، وحصد الجاني من غضب أبناء الشعب الطيب.. ونظراتهم..
ومشاعرهم السلبية المستحقة تجاهه... ما يفوق عقوبة الإعدام بأي نظام عقابي ... في مشهد يكشف كيف يفزع الطيبون على قيمهم، بما يمثل الدعوة الصادقة للمشرع القانوني أن يضع تلك الواقعة ومثيلاتها في أولوياته، لا سيما ونحن نعيش في وطنٍ يُبنى على القيم الأصيلة التي تشرح الصدور، وتطيّب الخواطر، وينحني فيه رئيس الجمهورية بتواضع ودماثة، يقبِّل رؤوس الأطفال والمرضى والطاعنين في العمر... ويربِتُ على أكتافهم...