«هنا مرقد الشيخ العالم محمد عياد طنطاوى الذى كان مدرسا للغة العربية بالمدرسة الكبيرة الإمبراطورية فى «بطرسبورج المحروسة»، وتوفى فى 27 أكتوبر، مثل هذا اليوم، 1861، عن خمسين سنة، حسبما يذكر النص المكتوب باللغتين الروسية والعربية فى على قبر «طنطاوى» فى مقابر التتار المسلمين بقرية «فولكوفا».
سافر «الطنطاوى» إلى روسيا سنة 1840 لتدريس اللغة العربية هناك، وظل بها حتى رحيله، وحسب الكاتب الدكتور أحمد الخميسى فى كتابه «أوراق روسية»: استدعاه محمد على باشا (والى مصر) وأوصاه ألا يُعلم الآخرين اللغة العربية فقط، بل وأن يتعلم اللغة الروسية ووعده بالرعاية والاهتمام السامى، وكان قبل سفره زميلا وصديقا لرفاعة رافع الطهطاوى رائد النهضة الثقافية المصرية الحديثة رغم أن رفاعة كان أكبر منه بعشر سنوات.
ولد «الطنطاوى» عام 1810 بقرية «نجريد، مركز بسيون، محافظة الغربية» لأب من «محلة مرحوم» قرب طنطا، وقصته من قصص التواصل الثقافى المبكر فى التاريخ الحديث بين مصر وروسيا، ويصفها المستشرق الروسى «اغناطيوس كراتشكوفسكى» فى كتابه «حياة الشيخ محمد عياد الطنطاوى» ترجمة «كلثوم عودة»، قائلا: «كان رحيل طنطاوى إلى روسيا حدثا كبيرا ليس فى حياته فحسب، بل وفى الاستشراق الروسى أيضا، حتى أن الصحافة الواسعة أعارته انتباها كبيرا، وكان عدد المثقفين فى العقدين الثالث والرابع من القرن التاسع عشر محدودا فى روسيا، ومع هذا فإن الاهتمام بالشرق كان أشد فى هذا الوقت منه فيما بعد، وكان صدى الاتجاه الرومانتيكى فى الآداب يدعم هذا الاهتمام، فبديهى أن تجذب شخصية الشيخ الشرقية أنظار رجال الثقافة، وكانت المفاوضات الرسمية المتعلقة بوفود الطنطاوى إلى روسيا معلومة لدى دائرة محدودة، وبالرغم من هذا أصبح ظهوره فى أوديسا وروسيا حديث الكثيرين».
ويكشف «كراتشكوفسكى» كيف سافر الطنطاوى إلى روسيا، قائلا إنه اشتهر فى القاهرة بصفته معلما للغة العربية داخل الجالية الأوروبية التى جاءت إلى مصر على أثر مشروعات محمد على، وفيها التحق الأوروبيون بالوظائف المختلفة، واحتاجوا إلى من يعلمهم «العربية»، وكان «الطنطاوى» من المشهورين فى هذا المجال، وتصادف أن كان من بين تلاميذه سياسيون روسيون هما «موخين»، و«رود لف فرين»، وتوطدت صداقته بهما، وعبرهما جاء سفره، حيث وصل فى 29 يونيو عام 1840 إلى بطرسبورج بعد سفر استغرق ثلاثة أشهر ونصف الشهر، منها شهران أو أكثر فى الحجر الصحى.
استقر «الطنطاوى» فى «بطرسبورج»، وحسب أحمد الخميسى: «ظل خمس عشرة سنة متصلة يقوم بتدريس اللغة والأدب العربى، وفى عام 1847 ترقى أستاذا فى الجامعة، وفى 1852 أهداه ولى عهد القيصر خاتما مرصعا بالجواهر تقديرا لجهوده، وانقطعت صلته بمصر فلم يزورها إلا مرة واحدة عام 1844، وبقى من حياته أبحاثه باللغة العربية، وترك كتابين هما «وصف بلاد روسيا»، و«تحفة الأذكياء بأخبار بلاد روسيا» سجل فيهما رحلته، ومنها ما حدث له بعد أن رست به الباخرة فى ميناء أوديسا، حيث قضى وقتا شاهد خلاله الأوبرا الإيطالية مرتين، وكتب يقول إنه لم يكن هناك فى المسرح من يضع عمامة على رأسه سواه هو والممثلين على المنصة».
يكشف «كراتشكوفسكى»، أن مكتبة «جامعة لنينجراد» فيها نحو 150 مخطوطة كانت فى حوزته، منها مؤلفات له مكتوبة بخط يده ومجهولة فى وطنه، وقطع كثيرة منقولة من مخطوطات أخرى بخط يده، ومسودات وملاحظات للمحاضرات، ومصنفات كان ينوى تصنيفها، واستمرت أعماله التدريسية والعلمية المنتظمة فى روسيا 15 عاما فقط، وأصيب منذ سبتمبر 1855 بشلل فى رجليه مما أثر على انتظامه فى العمل، واستعفى من الخدمة فى 31 يناير 1861، وتوفى فى 29 أكتوبر 1861، لكن التاريخ المكتوب على قبره «27 أكتوبر 1861».
يضيف «كراتشكوفسكى»: كانت له زوجة تدعى «أم حسن»، وفى 19 مايو 1850 ولدت له ولد أسموه أحمد وتوفيت قبل زوجها، وفى 17 أكتوبر 1860 توسل إلى السلطات أن يأخذوا ابنه ليعيش فى إحدى المدارس الوسطى على حساب الدولة لمرضه وفقدان زوجته، وبعد وفاته سعى عميد الكلية التى كان يُدرس فيها لأن يكون هناك معاش لابنه، وأصبح «العميد» وصيا عليه، واستمر الابن «أحمد الطنطاوى» فى روسيا حتى توفى فى أواخر العقد الثامن من القرن التاسع عشر، وفى 23 أبريل 1886 طلب الوصى من الجامعة وثيقة عن «طنطاوى الابن» ليقدمها إلى مجلس الأشراف لإدخال ابنته «هيلانة» فى طبقة الأشراف، حتى يمكن تربيتها فى «دار أيتام الأشراف»، ويضيف «كراتشكو فسكى»: «هكذا نرى أن حفيدة الطنطاوى غدت مسيحية، وبهذه الوثيقة القصيرة تضيع آثار أسرة أصلها من بلاد الأهرام فى روسيا».
يعلق أحمد الخميسى: «بقى قبره دليلا على أن مصر تركت بعيدا جدا فى الصقيع الروسى فلذة دافئة من روحها كانت تنشر بها اللغة والآدب».