حازم حسين

لحظة فلسطين ومأزق نتنياهو.. بين سياسة القاهرة فى غزة ورقابة واشنطن على الاحتلال

الأحد، 26 أكتوبر 2025 02:00 م


انعكس المسار تماما فى الأسابيع الأخيرة، وعلى خلاف ما كان يتوقع أكثر الناس تفاؤلا. توقفت الحرب فى غزة، ويبدو حتى الآن أنها لن تعود مجددا.

نجحت القاهرة فى تمرير المرحلة الأشد اختناقا فى مسار التفاوض على التسوية، وأعادت برمجة مواقف القوى الفاعلة فى المشهد، بإزاحة فكرة التهجير عن الطاولة، وتقديم خطة إعمار القطاع لأهله وفق ترتيبات أمنية وسياسية مقبولة لدى طيف واسع، أو لعلها أفضل ما تتيحه الظروف بتوازناتها الراهنة.

كانت المشكلة إلى وقت قريب؛ أن الولايات المتحدة تتبنى رؤية الاحتلال بشأن «اليوم التالى»، وأن المنطقة محشورة فى الزاوية الضيقة مع إدارة ترامب لما يزيد على ثلاث سنوات مقبلة.

لكنّ الصورة انقلبت رأسا على عقب، وما كان مزيّة لنتنياهو صار قيدا عليه، بمعنى أن الجدار الأمريكى الصلب أصبح أمامه، بعدما كان وراءه، يُؤمّن ظهره ويُصلّبه، ويُطلق يده بلا ضابط أو رادع للحُكم المطلق فى الحاضر والمستقبل.
ومأزقه اليوم أنه لم يعُد يعرف كيف يمرر الوقت الطويل المُنتَظَر، كما لا يجرؤ على المراوغة ومحاولة الالتفاف على إرادة واشنطن.

أراد ذئب الليكود العجوز أن يُوظّف هالة ترامب ضد خصومه فى الخارج والداخل، ونجح جزئيا طيلة الشهور الماضية، أو توهّم النجاح؛ لا سيما حينما اعتقد أنه استدرج البيت الأبيض ليكون شريكا فى مغامرته الساخنة، وأهم حلقاتها الحضور المباشر بالقاذقات الثقيلة وقنابل الأعماق فى الهجوم على موافق إيران النووية.

وذلك؛ بينما كان يُستدرَج فى الحقيقة لرهن كل أوراقه لدى رجل يتغلب عليه منطق الصفقات التجارية، ويُقيّم الأمور بحسابات براجماتية خالصة، تُقلّب مواقفه يُمنة ويُسرة بدافع الانفعال والحساسية الشخصية، ومن دون اعتبار للأيديولوجيا والدعايات والعناوين الدوجمائية الكبرى.

مُنِحَ «بيبى» هامشا طويلا نسبيا للعب على تناقضات السياسة الأمريكية. أتاح له «طوفان السنوار» عاما كاملا لاعتصار إدارة بايدن فى موسمها الانتخابى حتى الرمق الأخير، ومغازلة منافسه اللدود استباقيا بما يُثبّت قواعده الحربية واقتراحاته الخشنة فى القلب من الرؤية السياسية لصديقه المثالى القديم، ويُرسّم معالم المقاربة بخطوط لا تقبل التجاوز أو التعديل.

وقد بدا أن الأمور تسير على هواه بعد تخطيط هدنة يناير بطريقة لا تُعرضه للانكشاف أمام بيئته، ثم السماح له بنقضها بعد انقضاء مرحلتها الأولى وقبل الانتقال إلى التهدئة الدائمة. ومُلاقاة أوراق المبعوث الرئاسى ستيف ويتكوف له على أهدافه، وصولا إلى إفساد الجولة تماما بحلول يوليو الماضى، وتحميل المسؤولية كاملة لحركة حماس ومواقفها المُتشددة إزاء البنود المقترحة.

والحال؛ أن ثابتا وحيدا ظل على حاله فى المعادلة، وكان البطل الحقيقى وراء إعادة تحرير منظومة الأفكار الاستباقية لدى ترامب وفريقه، وإنزالها على أرض الواقع لترى التحديات القائمة، والمخاطر المخبوءة فى ثنايا المداولات السياحية المُراد فرضها على الصراع، من خارج نسيجه وطبيعته العابرة للأزمات الظرفية؛ مهما اشتدّت حدّتها.

ولا أقصد هنا إلا صلابة الرؤية المصرية بشأن أوهام الإزاحة الديموغرافية، سعيا إلى تغيير تركيبة القطاع، ومن وراء ذلك وضع القضية الفلسطينية على مُنحدر لم تختبره سابقا. فكأن القاهرة اضطلعت وحدها بمهمة التصدى لتداعيات الطوفان، وكبح الاندفاعة الصهيونية التى استغلت مقامرة الفصائل للتعجيل بمخططها التصفوى المركون فى الأدراج، ونجحت عمليا فى إعادة عقارب الساعة إلى ما قبل السابع من أكتوبر؛ ولو ظلت قوى اليمين من الناحيتين تختصم على أكوام الركام.

كان الفخ المبكر أن تُختَزل الحالة النكبوية الناشئة عن الحرب فى الشق الإنسانى حصرا، وعندما انشغل العالم بتلك النقطة، كانت القاهرة تضمها بمنطق واضح إلى جانب السياسة. من قمتها للسلام فى أكتوبر 2023 التى ضغطت لإنفاذ المساعدات جنبا إلى جنب مع إعادة «حل الدولتين» للواجهة.

وحتى قمة شرم الشيخ للسلام بعد نحو سنتين، وقد انطوت بالتصريح على باقة أهداف تغلق باب الحرب وتفتح باب الإعمار، وبالتلميح على إعادة وصل المنقطع مع الضفة الغربية وإبقاء فلسطين حزمة واحدة، فوق مخاطر التهجير الطارئة ودون أعباء الانقسام الممتدة لنحو عقدين منذ انقلاب حماس على السلطة الوطنية فى صيف العام 2007.

وبإيجاز؛ فإن كل طرف أصاب شيئا من أهدافه المعلنة وفوّت أشياء، بينما أمسكت الدولة المصرية بكل العناصر الأصيلة فى تعاطيها مع الأزمة: فى جانبها المعجل مع الاحتلال، وجوانبها المعطلة طويلا بين القوى والمكونات الفلسطينية.
ويبدو الاختلاف واضحا منذ انطلاق جولة التفاوض على خطة ترامب فى شرم الشيخ؛ إذ استُدعيت حركة الجهاد لتكون إلى جوار حماس.

وكان ذلك بمثابة التوطئة التى تداعت بعدها بقية الفصائل للشراكة المعنوية فى ورشة إنهاء الحرب، والمادية فى مساعى التوافق على ملامح اليوم التالى ما بعد تنحى الحركة وتمكين إدارة مدنية تكنوقراطية، تتولى مهمة الانتقال وإعادة تطبيع الحياة فى القطاع.

وذلك بالتزامن مع تصورات هيكلة وتأهيل منظمة التحرير، واحتواء التيارات النافرة عنها، وإنتاج نموذج وطنى تحت سقف الإجماع، يكون صالحا لاستلام زمام المسؤولية لاحقا، وإغلاق فاصل طويل من المناكفات البينية وسردية العدو عن غياب الشريك. وكان لقاء فتح مع حماس فى القاهرة بشارة إيجابية، والبيان الصادر عن دائرة واسعة من الفصائل مقدمة تُطمئن إلى فرص التوصل لنتائج عقلانية متجردة ومثمرة.

كان الطوفان ذريعة نتنياهو الكبرى؛ لكنه تأسس أصلا على التشظى وغياب الوفاق، وعزل البيئة الغزية عن ظهيرها السياسى فى رام الله، وعن محيطها الحيوى وحاضنتها من دول الاعتدال.

وخروج حماس من ماضيها المنتهى بكارثة ثقيلة، يُوشّر على مرحلة مُغايرة فى نظرتها لنفسها وبقية الشركاء؛ ولو كانت اضطرارا وتحت ضغط الأزمة. ذلك أن محور الممانعة انقضت فاعليته عمليا، وتآكل حزام الإسناد الأيديولوجى تحت ضغط الانفلات الصهيونى، وإعادة تكييف الرؤى والتصورات داخل الحيز الأصولى بنطاقيه السنى والشيعى.

وإنهاء الحرب بعد تسليم الأسرى ينهى مفاعيل التعلل بعملية الغلاف؛ إنما لا تكتمل فاعلية الخطوة دون حرمانه من ذريعة الانقسام والتنازع داخل البيت.

نعود إلى نتنياهو، وقد كان رهانه طوال الفترة الماضية على المزاوجة بين الشدة واللين، لامتصاص غضب الحلفاء والمناوئين فى الداخل، ثم إرباك وفد حماس المفاوض وتحميله مسؤولية إفساد الجولات الحوارية المتتابعة.

ويبدو أنه كان مستندا إلى «لوبى» يُساند رؤيته فى أروقة المؤسسات الأمريكية العميقة، وهو ما أشار إليه المبعوث ويتكوف بحديثه عن تلقى ثلاث إفادات يومية من المخابرات المركزية CIA تُؤكد أن الحركة لن توافق على خطة ترامب.

بينما كانت الوساطة العربية تقدم تطمينات إيجابية مضادة، تحققت فى النهاية وأثبتت أن الحكومة الإسرائيلية لم تجرؤ على رفض الصفقة؛ لكنها كانت تسعى من وراء ستار إلى إحباطها وإبقاء الأوضاع فى مدار السيولة والاقتتال الأبدى.
ومن الزاوية نفسها، يُمكن النظر إلى تصويت الكنيست على مشروعى قانونين لفرض السيادة على الضفة الغربية وإحدى أكبر المستوطنات المتاخمة للقدس؛ فيما يدفع الأمور عمليا باتجاه المصادرة التامة والنهائية على السياسة، بقطع الطريق على حل الدولتين بعد اقتطاع الأرض التى يُفترض أن يتحقق عليها.

وليست مصادفة أن يُتخذ القرار بالتزامن مع وجود نائب الرئيس الأمريكى فى إسرائيل؛ فكأنها محاولة للإحراج وجس النبض معا: إحراج إدارة ترامب بإظهارها فى صورة المخادع أو المنقلب على تعهداته، واستشراف حدود المسموح والممنوع على اليمين الصهيونى من جانب واشنطن فى سياق يقظتها الراهنة. وهو ما جاء الرد عليه سريعا بلغة واضحة ولا تقبل التأويل.

تردد أن نتنياهو لم يكن راضيا عن المشروعين المشار إليهما، وأوعز إلى ائتلافه بعدم دعمهما؛ باستثناء نائب واحد من الأحزاب الحليفة اخترق التوجيه وصوّت بالموافقة. والراجح أنه أراد أن يستفيد من الخطوة دون التعرض لرياحها العكسية، وكان بإمكانه أن يُسقطهما لو أراد؛ وقد مرّ الاثنان بنحو ثلاثين صوتا أو أقل، مقابل قرابة 64 مقعدا لحكومته فى الكنيست.

وفى كل الأحوال؛ فإنها خطوة رمزية أكثر من كونها عملية، ومسارها يمتد وفق الإجراءات المعمول بها إلى عدّة قراءات بين اللجان والجلسة العامة، لن يقل مداها الزمنى غالبا عن سنة كاملة، ما يعنى أن الدورة الحالية لن تتمكن من تمريرهما قبل موعد الانتخابات فى خريف العام المقبل. ولكن تداعت كل الرهانات أمام الرد الأمريكى؛ ولن يتحرك المشروعان خطوة إضافية على الأغلب.

فى بادئة الأزمة توافد بايدن ووزيرا خارجيته ودفاعه على تل أبيب ومجلس الحرب، وكان حلولا على معنى الدعم المطلق والتسليم بإرادة الحكومة اليمينية فى إدارة الميدان بانفرادية لا قيد عليها.

ومؤخرا تكرر مشهد شبيه، بدءا بمبعوثى ترامب، ستيف ويتكوف وجاريد كوشنر، ثم الرئيس نفسه، وبعده عاد المبعوثان مجددا، وتزامنت زيارتهما الثانية مع وفادة نائب الرئيس، ومن بعده وزير الخارجية الذى يشغل موقع مستشار الأمن القومى.

لكنَّ تدفُّق أرفع خمسة وجوه بالإدارة على إسرائيل فى أقل من أسبوعين، يبدو اليوم أبعد ما يكون عن الدعم بصورته السابقة، وأقرب إلى الوصاية والرقابة على سلوك نتنياهو وحكومته، أكان لاهتزاز الثقة، أم للشك فى أن قادة الدولة العبرية يعرفون مصلحتها، وهو ما قيل صراحة من الجانب الأمريكى بأنهم تدخلوا لإنقاذها من نفسها.

إسرائيل واقعة تحت ضغط مُعقّد من مُركّبات النقص. تُفرِط فى العنف عن ضعف، لا عن قوة؛ إذ يتسلّط عليها شعور ثقيل بالضآلة. وله أسباب مُتداخلة بين التاريخ والجغرافيا، وما بينهما من سيكولوجية اللص وغياب العُمق الاستراتيجى، وميراث الشتات والإنكار من كل بيئة وفدوا عليها أو تصادموا معها.

لذا؛ فإنها حساسة جدًّا إزاء المُهدِّدات الوجودية، كما بالنسبة لفكرة الوصاية والتسلُّط على قرارها، ما يُفسّر الجدل المتواصل داخلها الآن، بدءًا من فرض التسوية عليها فى غزة، وإلى إملاءات ترامب أمام الكنيست بشأن العفو عن نتنياهو وتجاوز قضايا فساده المفتوحة، بل ومُطالبة زعيم المُعارضة بالعمل معه، فيما يُشبه ترصيص التحالفات السياسية على هواه، وخارج التوازنات الحزبية والتمايُزات الأيديولوجية تماما.

وبقدر ما تربّح رئيس حكومة الاحتلال من القوّة الأمريكية فى حربه المباشرة، ومن تزكيته داخل البرلمان وأمام الشارع لدرجة التعدّى على القضاء؛ فإنه أسلم قِياده عمليًّا للحليف الكبير؛ ليكون أخًا أكبر ووصيًّا على الدولة وإدارتها.

ولم يعُد بمقدوره أن ينتقد الإملاءات أو يتملّص منها، ولا أن يفرزها ويتعاطى معها بالقطعة؛ لأن سيد البيت الأبيض لا يتسامح مع من يُفرّط له فى سيادته واستقلال قراره؛ ولو لمرّة واحدة. وهنا يتبدّى الفارق بين صلابة القاهرة مثلاً، وانخراط تل أبيب وغيرها تحت مظلّة واشنطن؛ حتى لم يعد بإمكانهم الخروج منها، على قسوة ما فى التسليم بمُقتضياتها الكاملة.

رجال ترامب ينتقدون موقف الكنيست، ويُشدّدون على أن «ضمّ الضفة» ليس فى أجندة إدارتهم. الرئيس يتحدث عن وعدٍ قطعه للعواصم العربية الفاعلة، ويُثَنّى بالحديث عن النظر فى إخراج مروان البرغوثى، أصلح الوجوه فى نظر كثيرين لإعادة توحيد الجبهة الفلسطينية وسَلب حماس تجارتها العاطفية بالقضية.

أمّا الزيارات المُتتابعة فتُعبّر عن شىء من انعدام الثقة، مقابل الاطمئنان إلى ضمانة القاهرة على الجانب الآخر، والمسار الذى تقوده لترميم الهياكل الفلسطينية واستمزاجها فى كّلٍّ وطنى مُوحَّد الرأس والرُّؤى؛ فكأنّ واشنطن تتقدّم بالرقابة المباشرة لتضع يدها فى مصافحة التسوية بدلاً عن مُجرم الحرب القابع فى تل أبيب.

المأزق اليوم يخص نتنياهو وحده؛ بشرط أن تستكمل الفصائل الفلسطينية استحقاقات المرحلة بعقلٍ بارد وروح مُنفتحة، وتسمع وتستوعب خطاب الرُّشد الذى أثبت كفاءته فى أوقات الفوضى، ولن يتمّ العبور إلى الاستقرار إلا معه.

أى عليهم التجاوب بإيجابية مع مسار المصالحة الذى ترعاه مصر، وإعادة توحيد الصف الوطنى على المُشتركات غير الخلافية، وإسقاط ما ثبت فشله أو عدم جدواه. كان الطوفان هديّة مجانية ثمينة لضباع الاحتلال؛ ويجب ألا تُفتَح لهم مسارب جديدة لابتداع طريقة أخرى لإفساد التهدئة والانقلاب عليها، ولا إعادة توجيه الدفة الأمريكية فى الوجهة التى يُحبّونها.

اضطُرّ لوقف الحرب التى كان ميّالاً لإدامتها، ويُفتّش عن ثغرة تُبقيه فى القطاع، أو لا تشطب بالقلم الأحمر نهائيًّا على طموحات التهجير والريفييرا.

تثبيت التهدئة بأية شروط تُخرج الاحتلال من القطاع مكسب عظيم، والنجاة فى إحلال بديل سياسى قادر على مُخاطبة العالم، وغير مُحمَّل بأعباء الطوفان وشُبهات التورّط فى محاور وأحلاف أيديولوجية، مرفوضة إقليميا بقدر ما يرفضها العالم. فشلت النار فى هزيمة نتنياهو أو تطويقه؛ وما من بديل عن السياسة لتعرية عصابة لا تزدهر إلا على حدّ السكين، وفى مواسم الفوضى والصخب.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب