ما زلنا فى شهر أكتوبر، بعد 52 عاما على انتصار أكتوبر 1973، والذى لم يكن مجرد انتصار فى حرب، لكنه كان تحقيقا لمستحيل، وخلال هذا العام، تحققت بعض الانتصارات الأخرى لصالح الرئيس أنور السادات، الذى سقط فى يوم احتفاله بالانتصار ووسط منصة العرض، بأيدى الإرهاب، وخلال هذه العقود تعرض السادات لهجمات ومحاولات انتقام سعت للتقليل من قيمة الانتصار، بل وصل الأمر إلى السعى للتشكيك فى وطنية الرجل، بينما كل الوثائق والأرواق التى صدرت من الجانب الإسرائيلى أو الأمريكى، تشير إلى أن أنور السادات قاد حربا وخداعا غير مسبوقين، لإيهام العدو بأنه لن يحارب، وكان العدو مدعوما بالترسانة الأمريكية، وأحدث أجهزة الاستشعار والتجسس، وهى قدرات مكنته من متابعة كل تحرك على الجبهة والتعامل معها، لكن العبقرية فى الأمر هو أن التجهيز للحرب تم أمام أعين العدو وتحت مراقبة أجهزته، تم بطرق وأساليب بسيطة لكنها عبقرية، وهو ما يمثل شهادة للأجهزة والمقاتلين المصريين، وأيضا للقيادة السياسية التى شاركت فى الخداع، حيث كانت مظاهرات الطلبة، والتى تهاجم الرئيس السادات، جزءا من الخداع، وتم إعلان تلف شون القمح من المطر، وإغلاق مستشفى الدمرداش بسبب تلوث كبير، وكل هذا بمشاركة الصحافة التى كانت طرفا فى الخطة، تهاجم الحكومة وتنشر التحقيقات التى تصب فى نفس القنوات الخداع.
ولحسن الحظ، أن هذا العام هو الذى شهد اعتراف إسرائيل بأن أشرف مروان بطل مصرى وليس جاسوسا، حيث خرج الإنصاف للرجل من إسرائيل وأجهزتها، وهو أمر كان معروفا لمن يعرف مصر، لكن «مروان» تعرض لأكثر حملات الانتقام والتلطيخ، للأسف من جانب الأستاذ محمد حسنين هيكل، الذى كان أحد عناصر التقليل من دور الرئيس السادات وانتصاراته، والغمز حوله وحول مجهوده، والأسباب معروفة، وجاءت براءة أشرف مروان.
بعد 52 عاما على انتصار أكتوبر نكتشف كيف كان النصر إنجازا جماعيا، من كل أسلحة القوات المسلحة والمخابرات والاستطلاع ومع اللغة النوبية التى تم استخدامها كشفرة سرية للتواصل بين القوات، وأعجزت العدو الإسرائيلى عن اختراق الاتصالات، الفكرة من الجندى أحمد محمد أحمد إدريس، الذى اقترح على الرئيس أنور السادات استغلال أن اللغة النوبية تُنطق ولا تكتب، ما جعل فك شفرتها مستحيلا، وتدريب 344 جنديا نوبيا لتشكيل نواة هذه الشفرة التى جعلت محاولات التجسس على الاتصالات مستحيلة، تماما مثلما توصل العبقرى باقى زكى يوسف، إلى قدرات مضخات المياه لإذابة الساتر الترابى، وقام مقاتلو الصاعقة بإغلاق فتحات النابالم على القناة.
بالطبع فإن النصر من صنع المصريين جميعا، الشعب الذى صبر وقدم كل ما يمكنه وضحى من أجل النصر، والمقاتلين الذين صنعوا المعجزات بانتصار مذهل، بقيادة الرئيس أنور السادات الذى تعرض على مدى عقود لظلم ومحاولة انتقاص من دوره، بل ومن حجم وعظمة الانتصار والعبور، حيث سعى البعض لتصوير النصر أنه «تمثيلية»، وهى محاولة لإهدار جهود مئات الآلاف من مقاتلينا صنعوا معجزة، فى ظل حقيقة أن مصر لم تكن تحارب إسرائيل ولكن تحارب أمريكا، ومعسكرا غربيا ليس قليلا، يدعم إسرائيل.
والواقع أن كل هذه التفاصيل نذكرها الآن، لنؤكد أن الاختلاف والاتفاق فى السياسات مع أى من قيادات مصر، لا يفترض ان ينسحب إلى إنكار جهد أسطورى للمصريين، ومن هنا فقد كنت حريصا فى كتاب «شعرة معاوية.. السادات وخصومه» على تأكيد أهمية الاعتراف بحجم ما تحقق سواء فى الحرب أو السلام، وربما أبقيت على بعض الاختلافات مع سياسات أو قرارات تتعلق بالسياسة والاقتصاد والتحالف مع تيار متطرف هو الذى اغتال الرئيس الذى دعمهم وتحالف معهم.
وأقول هذا لأننى وجدت خلال السنوات الأخيرة وشيوع «السوشيال ميديا»، أن هناك أقوالا ومعلومات وشائعات خاطئة، يرددها البعض حول السادات أو عبدالناصر، أو حتى مبارك، وهى مجرد معلومات بلا أصل ولا فصل، وبعضها ليس له أى مصدر، وإنما هى مقولات وقصص تم إلقاؤها فى مواقع التواصل، وتساهم فى التشويش والخلط، ولا أحد يحاول التصحيح، وهناك أعمال تدعى الوثائقية تنتج من دول حولنا، للأسف تزدحم بالمعلومات غير الموثقة، ليس هدفها الحقيقة، ثم إن الحرب والسلام كانا خيارات الوقت والظروف، ربما هذه التفاصيل أصبحت الآن أكثر وضوحا، وتتساقط «ألاعيب الثعالب» التى تفسد الكروم بلا هدف، أو لأهداف بعضها معلن وأغلبها خفى، لتبقى «ثعالب التاريخ» أقوى من الادعاءات. وللحديث بقية.

مقال اكرم القصاص