في ذكرى ميلاده.. مكرم عبيد قصة رجل وضع الوطن قبل الزعامة.. بطل ثورة 1919 الذى أصبح صوته هتاف الجماهير.. شريك سعد زغلول وسكرتير الوفد وضمير الحركة الوطنية.. ومن أشهر مقولاته: نحن مسلمون وطنًا.. نصارى دينًا

الخميس، 23 أكتوبر 2025 05:00 ص
في ذكرى ميلاده.. مكرم عبيد قصة رجل وضع الوطن قبل الزعامة.. بطل ثورة 1919 الذى أصبح صوته هتاف الجماهير.. شريك سعد زغلول وسكرتير الوفد وضمير الحركة الوطنية.. ومن أشهر مقولاته: نحن مسلمون وطنًا.. نصارى دينًا مكرم ميخائيل عبيد باشا

كتب: محمد الأحمدى

يحل يوم 25 أكتوبر ذكرى ميلاد أحد أعظم رموز الوطنية في تاريخ مصر الحديث، إنه مكرم ميخائيل عبيد باشا (1889 – 1961)، السياسي البارز والمحامي المفوه ووزير المالية الأشهر في تاريخ الحياة البرلمانية المصرية، والرجل الذي تحول اسمه إلى رمز للوحدة الوطنية والوفاء للمبادئ. عاش مكرم عبيد رجلًا للمواقف الصلبة، في زمن كانت فيه السياسة ميدانًا للرجال، وكان الوطن فيه هو القضية الأولى والأخيرة.

 

من صعيد مصر إلى أكسفورد.. ميلاد عقل وقيمة

ولد مكرم عبيد في محافظة قنا لعائلة قبطية عريقة، وكان منذ طفولته مولعًا بالعلم والثقافة. أتم دراسته الأولى في مدارس الأقصر وقنا ثم سافر إلى بريطانيا ليدرس الحقوق في جامعة أكسفورد، وحصل عام 1912 على ما يعادل درجة الدكتوراه في القانون. هذه المرحلة صنعت شخصيته الفكرية؛ فقد امتلك ثقافة قانونية عميقة، وإيمانًا راسخًا بحرية الشعوب وحق الأمم في الاستقلال. عاد إلى مصر محمّلًا بأفكار إصلاحية، فلم ينخرط في حياة الترف أو المناصب، بل اتجه لتسخير علمه في خدمة قضية الوطن.

 

بداية المشوار الوطنى.. الكفاح ضد الاحتلال

عمل عبيد فى بداية حياته سكرتيرًا لـ"الوقائع المصرية"، ثم سكرتيرًا لعدد من المستشارين البريطانيين أثناء الحرب العالمية الأولى. لكنه لم يقبل أن يكون شاهدًا على ظلم الاحتلال، فكتب رسالة جريئة هاجم فيها المستشار البريطاني "برونيات" مطالبًا بحقوق مصر واستقلالها، فتم فصله من عمله. لم يتراجع، بل تحول إلى محارب سياسي شرس ضد الاستعمار من خلال المقالات والخطب والعمل القانوني.
في عام 1919 التحق بثورة سعد زغلول، ومن هنا بدأت حكايته مع السياسة والحركة الوطنية. أثبت نفسه خطيبًا بارعًا، فأصبح من أقرب المقربين إلى زعيم الأمة، وانتقل مع الوفد إلى أوروبا للدفاع عن قضية الشعب المصري أمام العالم. نُفي وسُجن لكنه ظل ثابتًا على مبدأ واحد: "الحق فوق القوة، والأمة فوق الحكومة."

 

شريك سعد زغلول وضمير الوفد

كان انضمام مكرم عبيد إلى حزب الوفد نقطة تحول في مسيرة الحركة الوطنية. أسند إليه سعد زغلول مهمة الترجمة وإدارة الدعاية الدولية للحزب، حتى لُقب بـ "الخطيب المفوه" بسبب براعته الخطابية وقدرته على التأثير في الجماهير. وبعد وفاة سعد زغلول، أصبح عبيد سكرتيرًا عامًا للوفد وواحدًا من أهم قياداته السياسية والفكرية.


لم يكن مجرد سياسي طموح، بل كان ضميرًا حيًا داخل الحزب يواجه الانحراف، ويصد الفساد، ويؤمن بأن العمل العام مسؤولية أخلاقية قبل أن يكون مكسبًا سياسيًا.

 

وزيرًا للعدل الاجتماعي.. لا للثراء على حساب الفقراء

تولى مكرم عبيد وزارة المواصلات عام 1928، ثم أصبح وزير المالية في حكومة مصطفى النحاس باشا عام 1936. هناك ترك بصمة خالدة في تاريخ المالية العامة في مصر. وضع نظام الضريبة التصاعدية على الدخل حماية للفقراء، وكان صاحب فكرة النقابات العمالية المصرية وأول من تحدث عن العدالة الاجتماعية كحق وليس منحة.


كان يرفض الفساد المالي رفضًا قاطعًا، ويحارب استغلال النفوذ. كان يقول دائمًا: "إذا كانت الوطنية عملا، فشرف الوطنية أن تتقي الله في قوت الناس."

 

المحامي الإنسان.. صوت العدالة ومأوى المظلومين

بعيدًا عن المنصب، لم يتخل مكرم عبيد أبدًا عن رسالته الإنسانية. عمل بالمحاماة، ودافع عن المئات من سجناء الرأي والمعتقلين السياسيين. كان ينتقل من محكمة لأخرى دون أن يسعى إلى مكسب أو شهرة. تولى الدفاع عن الأديب عباس محمود العقاد عندما اتُهم بإهانة الذات الملكية، وقدم إحدى أشهر المرافعات في تاريخ القضاء المصري. انتُخب نقيبًا للمحامين ثلاث مرات وكان مثالًا للمحامي المثقف الشريف.

 

صاحب الكتاب الأسود.. ثورة على الفساد

رغم صداقته التاريخية مع مصطفى النحاس، انتهى التحالف السياسي بينهما عندما اكتشف عبيد انحرافًا ماليًا داخل حزب الوفد وحكومته. جمع الوثائق في كتاب أصدره عام 1943 عُرف باسم "الكتاب الأسود"، والذي اتهم فيه قادة الوفد بسوء استخدام أموال الدولة.


كان يعلم أن نشر الكتاب سيكلّفه الكثير، لكنه آثر قول الحق، فتم فصله من الوفد وإسقاط عضويته من البرلمان، ثم اعتقاله بأمر من النحاس. لكنه خرج مرفوع الرأس لأنه انحاز للوطن لا للأشخاص. قال عبارته الشهيرة: "إنني أفضل خسارة المناصب على خسارة الشرف."

 

فارس الوحدة الوطنية.. وفاء يتجاوز الأديان

ولا يمكن الحديث عن مكرم عبيد دون ذكر مواقفه الوطنية والإنسانية الجامعة بين المسلمين والمسيحيين. كان يقول دائمًا: "إن مصر وطن لا يعرف التفرقة بين أبنائه." وهو صاحب المقولة الخالدة: "نحن مسلمون وطنًا ونصارى دينًا. اللهم اجعلنا نحن المسلمين لك وللوطن أنصارًا، واجعلنا نحن النصارى لك وللوطن مسلمين."

رحيل الجسد وبقاء الرسالة

رحل مكرم عبيد في 5 يونيو 1961 بعد مسيرة نضال وطني امتدت أكثر من أربعة عقود، لكن اسمه ظل صوتًا للوطن ورمزًا للنزاهة وضميرًا للأمة. ترك تراثًا سياسيًا وفكريًا وقانونيًا لا يموت، وأثرًا إنسانيًا خالدًا. كان يؤمن حتى اللحظة الأخيرة أن: "مصر ليست وطنًا نعيش فيه.. بل وطن يعيش فينا."

وفي زمن تتغير فيه الوجوه وتتبدل فيه المواقف، يبقى مكرم عبيد باشا رمزًا للمبادئ التي لا تسقط بالتقادم. علم الأجيال أن الوطنية ليست خطبًا ولا شعارات، بل مواقف تُدفع أثمانها. وأن الشرف السياسي يعني أن تكون وفيًا للحق، حتى لو وقفت وحدك.


وهكذا، لم يكن مكرم عبيد مجرد شخصية تاريخية، بل مدرسة وطنية وإنسانية يجب أن نُعيد قراءتها كلما اشتدت الأزمات وضاق الطريق. فالرجل لم يبحث عن مجد شخصي ولا منصب، كان همه الأول والأخير كرامة مصر وعدالة شعبها. رحم الله الزعيم الذي صدق ما عاهد الله والوطن عليه.

 




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب


الموضوعات المتعلقة