في وقت كانت فيه صناعة النشر، بريقها وتأثيرها الكبير ثقافيًا واجتماعيًا واقتصاديًا أيضًا، وللكتاب الورقي رونقه وسطوته على عالم القراءة، وكان التنافس بين دور النشر كبيرًا للتعاقد مع كبير الأدباء الموجودين في ذلك التوقيت، خرجت في تسعينيات القرن الماضي، دار شرقيات للنشر لصاحبها الناشر حسني سليمان، والتي على مدى أكثر من ثلاثة عقود من الزمان لعبت دورًا كبيرًا في صناعة الوعي، كانت لاعبًا رئيسًا في نشر أعمال الكثير من الكُتاب والأدباء مما لا يستطعيون نشر أعمالهم في دور النشر الحكومية والتي كانت تسيطر على حركة النشر آنذاك.
كانت دار شرقيات، مساحة حرة للإبداع الخارج عن المألوف، والمختلف مع السائد، كانت الحرية هي ركيزة الدار في قبول الأعمال التي تنشرها، بل كانت الدار أكثر مغامرة بنشر أنواع أدبية لا تجد لها مساحة كبيرة في سوق النشر مثل المجموعات القصصية ودواوين الشعر، وعلى مدى ما يقرب من 30 عامًا ظلت الدار هكذا، لكن مع زيادة تنوع الوسائط، وحجز مواقع التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية ومن قبلهما الكتاب الرقمي مكانهم في الوسط، وفي وقت تجاوزت فيه ذائقة القراءة نوعية الأدب التي كانت تعرف به دار شرقيات، وبدأ الشباب يلجئون إلى أفكار وكتابات أخرى شعبية وتجارية، بدأت الدار في التراجع، والخفوت، تأثرًا بالأزمة الاقتصادية التي ضربت سوق النشر في العالم أجمع.
كان حسني سليمان، الناشر الجرئ والمغامر، هو من يقف وراء هذه الدار، لكن الراجل ظل لسنوات طويلة يعمل في صمت، اختار منطقة الظل لكي يعمل منها، ومثلما عمل في صمت طويل، رحل في هدوء تام، تاركًا خلفه مكانه ربما لا يضاهيه فيها أحد الآن، ومساحة ربما لم يستطيع ملئها رغم تعدد وكثرة دور النشر الخاصة، ورغم أن الرجل رحل قبل 6 أشهر من الآن في هدوء غريب، نما إلى الأوساط الثقافية نبأ وفاته، فتوشحت صفحات الكثير من المثقفين بالسواد ومنشورات النعي للرجل الذي أفني حياته في صناعة النشر، بكل حرية وجراءة.
الكاتب والناقد الكبير محمود عبد الشكور، نعى الناشر الراحل حسني سليمان، قائلا: "خبر رحيل الأستاذ حسني سليمان فعلًا موجع، وربما ما يزيد الحزن عمقًا هو هذا الصمت الطويل الذي أحاط بغيابه، وكأنه أراد أن يرحل كما عاش: بهدوء، وبلا ضجيج، تاركًا خلفه أثرًا لا يُمحى في وجدان الأدب المصري والعربي.
وأضاف عبد الشكور: "كان صاحب دار شرقيات أكثر من ناشر؛ كان صديقًا للكتّاب، ومحبًّا للقراء، ومثقفًا يرى في كل كتاب مشروع حياة. جلساته في مقر الدار بشارع محمد صدقي كانت مساحة من الحوار الحقيقي حول الأدب والفكر والجمال. حملت شرقيات بصمته الخاصة — من الأغلفة التي صمّمها محيي اللباد، إلى اختياراته الدقيقة للنصوص التي صنعت جيلاً أدبيًا كاملًا".
ولفت صاحب "أشباح مرجانة": "اقترحت تكريمه في معرض الكتاب الماضي، والآن وأتمنى الاحتفاء باسمه، وأن تحمل جائزة أفضل ناشر اسمه، لانها فكرة تستحق أن تتحقق فعلًا، لأن فضله كبير، وغرسه ما زال يثمر فينا جميعًا.
بينما قالت الروائية منصورة عز الدين: "في أواخر التسعينيات، زرتُ دار شرقيات للمرة الأولى وأنا طالبة جامعية لا تزال خطواتي في عالم الأدب مترددة. استقبلني حسني سليمان بودٍّ صادق، كما لو يعرفني منذ زمن، وسرَّه أن يعرف أن مصطفى ذكري كاتبي المفضل، حتى وعدني بالتواصل معه. لم يكن يتصرف كناشر، بل كعاشقٍ للثقافة يرى في القارئ شريكًا لا زبونًا. يومها أعارني كتاب هكذا تكلم زرادشت لنيتشه وأوراق زمردة أيوب لبدر الديب، مؤكّدًا أن أحتفظ بالأول إن شئت، لكن الثاني أمانة لأنها النسخة الوحيدة المتبقية لديه".
وتابعت عز الدين: "أعدتُ الكتابين بعد قراءتهما، وتحادثنا طويلًا حولهما، وكان فرحه برأييّ الصادق أكبر من أي شيء. منذ ذلك اليوم أدركت أن زيارة الدار ليست مجرد شراء كتب، بل لقاء مع إنسان يؤمن بأن الأدب طريقة للعيش والودّ. ظلَّ لقاؤنا الأول علامة مضيئة في ذاكرتي، ودليلًا على أن البساطة والكرم هما أجمل ما يمكن أن يجمع بين البشر. رحم الله حسني سليمان".
من جانبه قالت الكاتبة بسمة عبد الحليم: "كان التردد على دار شرقيات بالنسبة لي أشبه بزيارة بيتٍ قديمٍ أحبه. في كل مرة أصل، أجد الباب مغلقًا والضوء مسرّبًا من الداخل كعلامة ودّ، فيستقبلني الأستاذ حسني سليمان بابتسامة دافئة. المكان صغير وبسيط، لكنه مليء بالحياة والكتب التي تحمل أرواح كتّابها. بعد زيارات متكررة، سمح لي بدخول الغرفة المغلقة التي أخفاها عن الجميع، وهناك وجدت كنوزًا من الإصدارات النادرة، بينها ترجمة أحمد حسان لرواية سحر شنغهاي لخوان مارسيه".
وأضافت بسمة: "تعلّمت في تلك الدار أن الكتب ليست مجرد أوراق، بل حكايات ممتدة من يدٍ إلى أخرى. كنت أختار كتبي على مهل بينما يتبدل صوت الراديو بين موسيقى قديمة وأغنياتٍ وديعة، ثم أجلس مع الأستاذ حسني للحساب والدردشة، فيخصم من السعر كرمًا، ويحكي لي عن الكتّاب وأيامهم. في إحدى المرات، سألته عن دواوين فريد أبو سعدة، فابتسم واتصل به أمامي وأعطاني السماعة لأحادثه بنفسي. كانت تلك اللحظة بالنسبة لي درسًا صغيرًا في الودّ، وفي محبة الأدب وأهله".
في السياق نفسه، تحدث الكاتب الصحفي وائل لطفي عن الراحل حسني سليمان في النشر، قائلا: " في التسعينيات، لمع اسمان تركا أثرًا عميقًا في الثقافة المصرية: راوية عبد العظيم، مديرة دار سينا للنشر التي قدمت كتبًا سياسية وتنويرية شجاعة، وحسني سليمان، صاحب دار شرقيات الذي احتفى بالأدب الجمالي وقدّم جيلَي الثمانينيات والتسعينيات بوعي فني راقٍ بعيد عن الاستهلاك التجاري. مع مطلع الألفية، تراجع دورهما وسط تصاعد التطرف وتسليع الثقافة، وانزوى الاثنان في صمت. رحلا كلاهما بهدوء، وكأن هذا البلد يعاقب من يؤمن بالجدية والجمال في الثقافة".
وقالت كرم يوسف، مؤسس ومدير دار الكتب خان: "في صيف 2005 زرتُ دار شرقيات لأتحدث مع حسني سليمان حول توفير إصدارات الدار في مكتبة الكتب خان التي كنت أؤسسها. منذها صارت زياراتي له طقسًا ثابتًا، نتحاور حول النشر والكتب والكتّاب. حزنت بشدة حين توقف عن النشر عام 2017 بعد مسيرة جريئة ومضيئة شارك فيها الفنان محيي الدين اللباد في تشكيل هوية بصرية فريدة لكتبه. واليوم علمت بخبر رحيله منذ ستة أشهر، وأشعر بحزن عميق على فقدان ناشر وإنسان نبيل سيبقى في القلب دائمًا".
بينما نعت الروائية ميرال الطحاوي في اقتضاب، الناشر حسني سليمان، قائلة: " السلام لروحك حيثما حلت يا صديقي ... شرقيات".