فى عصر يوم الجمعة، الموافق 14 أكتوبر 1994م، وفي الذكرى السادسة لفوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل للأدب، كان الأديب الكبير يستعد لمغادرة منزله بحي العجوزة، متوجها إلى مقهاه المعتاد في وسط القاهرة برفقة صديقه فتحي هاشم.
وبينما كان محفوظ يهمّ بركوب السيارة، التفت فتحي ليأخذ مقعد القيادة، قبل أن يسمع صرخة مكتومة صدرت من الأديب الكبير، امتدت يد آثمة تحمل سكينًا لتغرسها فى عنق صاحب "الثلاثية"، فى محاولة اغتيال خسيسة استهدفت الفكر والعقل والإبداع في آن واحد.
بمحض الصدفة وقعت الجريمة على مقربة من مستشفى الشرطة بالعجوزة، حيث تم إسعاف محفوظ على الفور وإنقاذ حياته، لكن الطعنة تركت أثرها العميق في جسده وذاكرته، إذ تسببت في شلل جزئى بيده اليمنى، ما جعله يعاني في الكتابة لسنوات لاحقة، دون أن يفقد شغفه أو إصراره على الإبداع.
رمزية التوقيت.. وعمق الرسالة
لم يكن اختيار يوم 14 أكتوبر عشوائيًا، فقد تعمد منفذو الجريمة تنفيذه في ذكرى تتويج محفوظ بجائزة نوبل، اعتقادًا منهم أن الجائزة كانت مكافأة غربية على رواية "أولاد حارتنا"، التي طالما كفّروه بسببها، لكن الحقيقة أبعد من ذلك بكثير.فقد أكدت الأكاديمية السويدية في حيثيات منح الجائزة أن محفوظ نالها تقديرًا لـ"روايته غير العادية أولاد حارتنا، التي تناولت سعي الإنسان الدؤوب نحو القيم الروحية، وعرضت صراع الخير والشر في صور متعددة"، دون أن تكون الرواية السبب المباشر للفوز.
إلا أن محفوظ نفسه كان يدرك أن مشروعه الأدبي بأكمله، بما فيه من عقلانية، وجرأة فكرية، وتنوير اجتماعي، هو ما أثار حفيظة التطرف، وجعل منه هدفًا في عيون الجهل والتكفير.
محفوظ أمام قاضي التحقيق.. وابتسامة الحكيم
حينما مثل محفوظ أمام قاضي التحقيق بعد الحادث، سأله القاضي عن رأيه في سبب الاعتداء عليه، فأجاب الأديب الكبير بهدوئه المعتاد: "أنا لم أُفاجأ بالطعن، كنت أعلم أن الفكر يدفع ثمنه عاجلًا أو آجلًا".ما بعد الطعنة.. انتصار الوعي
رغم الألم الجسدي، خرج محفوظ من التجربة أكثر قوة. لم يرفع صوته بالغضب، بل بالسلام والفكر، واحتشد حوله المثقفون والكتّاب والفنانون في موقف وطني وإنساني جامع، فتحوّلت محاولة اغتياله إلى شرارة لإعادة الوعي بقيمة الثقافة والتنوير، ورسالة واضحة بأن الفكر لا يُغتال، وإن أصيب جسده.
في النهاية، كانت محاولة اغتيال نجيب محفوظ، طعنة في قلب مصر المستنيرة، وفي روح الثقافة العربية كلها، غير أن يد الإرهاب فشلت في إسكات الصوت الذي كتب "حديث الصباح والمساء"، لأن الفكر لا يموت، ولأن مشروع نجيب محفوظ الإنساني سيظل حيًا ما دامت هناك كلمة تُكتب، وكتاب يُقرأ، وإنسان يحلم بعالمٍ أفضل.