منذ عام 2004 تبدلت ملامح الروائى الفلسطينى باسم خندقجي كما تدبل العالم من حوله، فالوحدة الطويلة خلف القضبان تركت أثرها الواضح على وجهه، وفى عينيه ما يخفي الكثير من الوجع المصحوب بالفرح، خروجه إلى الحرية بعد واحد وعشرين عاما من الأسر بدأ كأنه حلم تحقق أو معجزة واقعية، بعد أن حكم عليه بالسجن المؤبد ثلاث مرات أي تمضيه حياته كاملة بالسجن.
اليوم وأنا أحدثه لاحظت فى حديثه مزيجا من القوة والهدوء، من الألم والأمل، وكأن كل لحظة فى حياته أصبحت جزءًا من رواية كبرى يكتبها بصدق وبحرية، وخلال حديثى معه حاولت أن أقترب من باسم الإنسان والروائى، لأتعرف منه على تفاصيل رحلته الطويلة، مشاعره لحظة التحرر، ورؤيته للعالم بعد أن عاد إلى الحياة من جديد.
بداية.. بعد أن قضيت 21 عاما فى الأسر ما أول إحساس انتابك عند خروجك إلى الحرية؟
لا أستطيع أن ألمس هذا التغيير الآن بشكل واضح، فهناك أمور لا يمكن إدراكها فى الوقت الحالى إلا بعد مرور بعض الوقت، أنا محرر منذ ثلاثة أيام فقط، وما زلت أحاول أن أصدق أننى موجود فعلاً، أننى حر، وأننى ألمس الأشياء من حولى.
أحاول أن أقنع نفسى أن هذا ليس حلماً، فى بعض الأحيان أخشى أن أغمض عينى حتى لا أستيقظ مجددًا داخل السجن، كما كنت أحلم بالحرية هناك، حلم التحرر هو حلم حياة بأكملها، عندما نقول أسير قضى 21 عامًا، فهذا يعنى أننى دخلت السجن وأنا فى الحادية والعشرين من عمرى، وأتحرر اليوم وأنا فى الثانية والأربعين، لكننى أشعر أننى أعود إلى بدايات العمر، أبدأ من جديد، وأحاول أن أرسم حياة جديدة فى الغربة، رغم أن مصر بالنسبة لنا كفلسطينيين هى وطن ثانٍ، الطيبة والدفء اللذان لمستهما من المصريين يخففان من حدة الغربة التى فرضها علينا الاحتلال.
ما اللحظة التى منحتك الأمل داخل السجن رغم كل القسوة؟
الأمل موجود منذ اللحظة الأولى، فهو إكسير الإرادة والصمود فى مواجهة السجان، الأمل هو ما يجعلنا نواجه سياسات الاحتلال التى لا تستهدف فقط الجسد، بل الوجدان والنفس والوعى، الأمل ليس شيئًا ملموسًا، بل يشبه الإيمان، ولولا الأمل، لما كتبت، ولما آمنت بأن الحرية قادمة، كما قال شاعرنا الراحل محمود درويش: "في السجن ربيت الأمل".
هل تعرضت للتعذيب أو التنكيل داخل سجن الاحتلال؟
الضرب والتنكيل والسياسات التعسفية كانت وجهة نظر ثابتة لإدارة السجون الصهيونية، حتى لحظة الإفراج عنى، تعرضت للضرب، وما زلت أعانى من آلام فى صدرى، لكن هذا الألم جعلنى أكثر يقينًا بأن الحرية قادمة لا محالة، فالألم هو الثمن الذى يجبرنا الاحتلال على دفعه مقابل حريتنا.
كيف كانت لحظة علمك بفوزك بجائزة البوكر العربية؟ وكيف تعامل الاحتلال معك بعد ذلك؟
فى البداية علمت بوصول روايتى إلى القائمة الطويلة عبر إحدى المحاميات المتطوعات التى زارتنى فى السجن، أما خبر الوصول إلى القائمة القصيرة، فعرفته من خلال مذياع مهرب كنا نحتفظ به فى الزنزانة، ومن خلال صوت أمى التى أبلغتنى الخبر عبر برنامج "مراسيل الأسرى".
كانت تلك من أجمل اللحظات فى حياتى، أن يصلنى صوت أمى ومعه بشرى أدبية كهذه، كنت أتوقع الوصول إلى القائمة القصيرة، وكنت أطمح للفوز، لكن مجرد الوصول كان كافياً فى تلك الظروف القاسية، بعد ذلك، ازدادت سياسات الاحتلال قسوة، تمت مصادرة المذياع، وتعرضت للضرب ونُقلت إلى سجن "عسقلان" فى مايو 2024، وهو موعد تسليم الجائزة، لم أكن أعلم أننى فزت بالجائزة إلا عندما اقتحمت وحدة القمع زنزانتى واقتادونى إلى التحقيق لدى جهاز "الشاباك" خلال الاستجواب، ومن طبيعة أسئلتهم حول الرواية، فهمت أننى فزت، بعدها عُزلت لأيام وتعرضت للتنكيل والضرب، تغير تعامل إدارة السجون معى تمامًا بعد الفوز، وأصبحت أكثر بطشًا وتعسفًا، وكأن فوزى بالجائزة كان جريمة فى نظرهم.
كيف كنت تتعامل مع الكتابة والنشر وأنت داخل الأسر؟
الكتابة فى السجن ليست ترفاً، بل هى ضرورة فى الداخل، تتحول الكلمة إلى فكرة، والفكرة إلى سلاح أقوى من الرصاصة ومن الفاشية، والكلمات والجمل حين تتحول إلى رواية، تصبح وطنًا صغيرًا، هذا الوطن كان يحميني داخل المعتقل، وكان يدفئني في زمن البرد العنصري القارس.
الكتابة كانت شأنًا يوميًا بالنسبة لي، وعندما أنهي رواية، أشعر كأنني أنجبت طفلًا، كنت أرى رفاقي الأسرى يهربون نطف الحرية لينجبوا أطفالًا، أما أنا فكنت أقول لهم: أن تخرجون أطفالاً من لحم ودم، وأنا أخرج أطفالاً من حبر وكلمات، وعندما يقرر الأسير أن يكتب، يتحول من أسير إلى مطارد، وتصبح كلماته هي الأخرى مطاردة.
بعيدًا عن الاعتقال والسجون.. هل سمعت عن الذكاء الاصطناعى؟
أنا أعرف الذكاء الاصطناعى، وأتابع تطوراته، لكننى أؤمن أن الإبداع الإنسانى لا يمكن استبداله مهما تقدمت التكنولوجيا، الذكاء الاصطناعي قد يساعد في بعض الجوانب التقنية أو اللغوية، لكنه لا يمتلك التجربة الوجدانية، ولا الألم ولا الحلم، وهى العناصر التى تصنع الأدب الحقيقى.
ما خططك المستقبلية بعد تحررك ووصولك إلى مصر؟
على صعيد المستقبل، ما زالت ملامح طريقى غير واضحة تمامًا، فبعد 21 عامًا من الأسر، حيث كان الاستقرار مفروضًا على قسرًا، أعيش اليوم تجربة مختلفة تماما، أتعلم فيها كيف أتنفس حريتى وأتلمس خطواتى الأولى نحو حياة جديدة، ابتعادى عن أرضى ترك فراغًا كبيرًا داخلى، لذلك أبحث الآن عن وطن مؤقت أستعيد فيه توازنى وأعيد ترتيب ذاتى، لكن ما أنا واثق منه أن الأدب سيبقى بوصلتى، والثقافة لغتى الدائمة، وسأستمر فى الكتابة لأنها بالنسبة لى ليست مجرد ممارسة إبداعية، بل طريقة للبقاء وللاحتفاء بالحياة.
