تحل اليوم، 15 أكتوبر، ذكرى ميلاد واحد من أبرز رواد التنوير فى مصر والعالم العربي، وهو رفاعة رافع الطهطاوي، الذى ولد عام 1801 بمدينة طهطا فى محافظة سوهاج، بصعيد مصر.
هنا .. فى مدينة طهطا مازالت المتعلقات الشخصية وصور الطهطاوى تحكى رحلته وكفاحه من أجل التنوير.
نشأ الطهطاوى فى بيت علم ودين، حيث تلقى علومه الأولى فى بيئة مليئة بالعلماء والفقهاء، فحفظ القرآن الكريم ودرس علوم الفقه والنحو منذ صغره. وبعد وفاة والده، أكمل تعليمه فى طهطا بين أخواله، قبل أن ينتقل إلى الأزهر فى سن السادسة عشرة، حيث تتلمذ على يد عدد من كبار العلماء، ودرس الحديث، الفقه، التفسير، النحو، الصرف، والبلاغة.
انطلقت رحلة الطهطاوى الفكرية إلى آفاق جديدة عندما اختاره شيخه حسن العطار ليكون واحدًا من ثلاثة أزهريين يصحبون بعثة علمية أرسلها محمد على باشا إلى فرنسا عام 1826.
وكان الهدف من اصطحابهم هو أداء الشعائر الدينية لأفراد البعثة، لكن الطهطاوى تجاوز هذا الدور التقليدي، فبدأ فى تعلم اللغة الفرنسية واندمج فى المجتمع الفرنسي، متأثرًا بأفكار الثورة الفرنسية، لا سيما ما يتعلق بالمواطنة والحرية والمساواة. وبفضل اجتهاده وتميّزه، قررت الحكومة المصرية ضمه رسميًا للبعثة وتكليفه بالترجمة، فأنهى دراسته بباريس بعد خمس سنوات وهو يحمل معه رؤية تنويرية شاملة لما يجب أن تكون عليه مصر.
عاد الطهطاوى إلى القاهرة عام 1831، وبدأ العمل فى مدرسة الطب كمترجم، وسرعان ما اتسعت رؤيته ليقترح تطوير التعليم فى مصر، فأسس عام 1835 مدرسة الترجمة التى أصبحت فيما بعد مدرسة الألسن، وعيّن مديرًا لها ومدرسًا أيضًا.
وخلال هذه الفترة، ترجـم العشرات من الكتب من الفرنسية إلى العربية، وأنشأ أقسامًا متخصصة فى الترجمة مثل العلوم الإنسانية والرياضيات والطبيعيات، كما أنشأ مدارس لدراسة الاقتصاد والسياسة، وأشرف على إصدار جريدة الوقائع المصرية بالعربية.
لم تكن جهود الطهطاوى فى الترجمة فقط، بل حرص أيضًا على إحياء التراث المصرى القديم، وكان أول من دعا إلى تدريس العلوم باللغة العربية بدلاً من التركية أو اللغات الأجنبية، فى خطوة جريئة لتوطين المعرفة.
وعلى الرغم من هذه الإنجازات، إلا أن وصول عباس باشا إلى الحكم شكّل انتكاسة لمشروع الطهطاوى التنويري؛ حيث أغلق مدرسة الألسن وقلّص النشاط الثقافي، بل ونفى الطهطاوى إلى السودان عام 1850.
إلا أن هذا النفى لم يثنه عن مواصلة مشروعه، فاستغل سنوات النفى فى ترجمة الأدب الفرنسي، وأشهر ما نقله رواية "مغامرات تليماك"، وأنشأ مدرسة ابتدائية هناك، ضمت نحو أربعين تلميذًا. وبعد وفاة عباس باشا واعتلاء سعيد باشا الحكم، عاد الطهطاوى إلى مصر ليستأنف نشاطه التنويري، فأسس مكاتب لمحو الأمية، وأعاد الاهتمام بالتراث العربى من خلال طباعة أمهات الكتب فى مطبعة بولاق، كما أعاد تنشيط حركة الترجمة.
ومع تولى الخديوى إسماعيل الحكم عام 1863، عادت الحياة الثقافية إلى مسارها، فعاد الطهطاوى ليترأس إدارة الترجمة، ويشرف على مكاتب التعليم، ويؤسس أول مجلة ثقافية فى تاريخ مصر تحت عنوان "روضة المدارس"، ويكتب فى التاريخ والتربية والسيرة، فظهرت مؤلفاته التى تنوعت بين الفكر، التعليم، القانون، والسيرة النبوية، منها: "أنوار توفيق الجليل فى أخبار مصر"، و"مباهج الألباب المصرية"، و"المرشد الأمين للبنات والبنين"، و"نهاية الإيجاز فى تاريخ ساكن الحجاز"، و"القول السديد فى الاجتهاد والتجديد"، وغيرها الكثير.
خلال مسيرته، لم يكن الطهطاوى مجرد مترجم ينقل المعارف، بل كان مفكرًا يجتهد فى تحليلها ومواءمتها مع المجتمع المصري، فقد دعا مبكرًا إلى ما يشبه مفهوم "المواطنة" القائم على المشاركة الشعبية والمساواة بين المواطنين، وهو ما أطلق عليه "المنافع العمومية"، متأثرًا بأفكار الفلاسفة الأوروبيين أمثال جان جاك روسو.
كما كان له الفضل فى إدخال مصطلحات الدولة الحديثة إلى الفكر المصري، وكان حلقة الوصل بين مصر والعالم المتقدم آنذاك.
وقد حظى الطهطاوى بتقدير كبير من حكام عصره، حيث تلقى هدايا وأراضٍ من محمد علي، وإبراهيم باشا، وسعيد باشا، والخديوى إسماعيل، حتى بلغت ثروته عند وفاته عام 1873 ما يقرب من 1600 فدان، حسب ما وثقه على مبارك باشا فى كتابه الشهير "الخطط التوفيقية".
ولا تزال ذكراه حاضرة حتى اليوم فى مسقط رأسه بصعيد مصر، حيث أُطلق اسمه على عدد من المؤسسات التعليمية والثقافية، مثل مكتبة رفاعة الطهطاوى فى مدينة سوهاج، ومدرسة رفاعة الثانوية العسكرية بطهطا، وعدد من الميادين والشوارع.
كما تنتشر تماثيله فى المدينة، أبرزها التمثال القابع أمام جامعة سوهاج، وتماثيل أخرى عند مداخل طهطا، تخليدًا لرائد النهضة المصرية الحديثة، الذى وحّد بين الأصالة والمعاصرة، وأضاء دروب المعرفة لجيل كامل من أبناء وطنه.

تمثال رفاعة رافع الطهطاوي

صور تذكارية

صورة من منزل رفاعة رافع الطهطاوي

من داخل منزل رفاعة رافع الطهطاوي

من منزل رفاعة رافع الطهطاوي

منزل العائلة

ميدان رفاعة رافع الطهطاوي