"هااا مين هناك؟" جملة شهيرة ارتبطت في أذهان المصريين بدور الخفراء في الريف، حيث كان صوت الخفير يتردد في أزقة القرى ليلًا، ممسكًا ببندقيته القديمة، يتجول بحذر، يتفقد البيوت والأراضي الزراعية، ويحاول أن يفرض نوعًا من النظام في محيطه الصغير.
كان الخفير في ذلك الوقت تابعًا للعمدة، يتلقى تعليماته المباشرة، ويعمل تحت إشرافه الكامل، فيما كانت الأسلحة تُخزّن في مقر العمدة، وتُوزع بحسب الحاجة، خاصة في أوقات الأزمات أو التهديدات الأمنية.
وظيفة الخفير كانت محورية في القرى المصرية، حيث لم تكن هناك مراكز شرطة قريبة في بعض المناطق، وكان الخفراء هم الخط الأول للدفاع عن الأهالي وممتلكاتهم. كانوا يعرفون وجوه سكان القرية واحدًا واحدًا، ويستشعرون الخطر من أبسط حركة غريبة.
وإذا ما اشتبه الخفير في أحد، كان يتوجه إليه مباشرة ويقتاده إلى شيخ الخفر، وهو أكبرهم سنًا وخبرة، ليتولى التعامل معه وفقًا لما تراه الجهات المعنية.
اليوم، ومع التغيرات الاجتماعية والتكنولوجية المتسارعة، لم يعد الخفير مجرد رجل بسيط يرتدي جلبابًا ويحمل بندقية تقليدية.
فوظيفته شهدت تطورًا ملحوظًا خلال السنوات الأخيرة، مدعومًا برؤية أمنية جديدة تراعي تحديات العصر، وعلى رأسها الذكاء الاصطناعي والتقنيات الرقمية في حفظ الأمن العام.
لم تعد المهنة مقتصرة على الدور التقليدي في الحراسة الليلية، بل أصبحت مزيجًا من المهارات الأمنية الحديثة والانضباط الميداني، مدعومة بتدريب متطور.
في هذا الإطار، نظّم قطاع التدريب بوزارة الداخلية الدورة الثالثة للخفراء النظاميين، بمقر معهد تأهيل الأفراد في القاهرة، بهدف رفع كفاءتهم وتطوير قدراتهم العملية والنظرية، وإعادة تعريف دورهم الأمني في إطار مؤسسي حديث.
وقد تضمن البرنامج التدريبي مجموعة من المناهج المتقدمة التي ركزت على تنمية المهارات التخصصية، إلى جانب تدريبات على اللياقة البدنية واستخدام الأسلحة، وتنفيذ سيناريوهات محاكاة واقعية للمواقف الأمنية التي قد تواجه الخفير أثناء عمله اليومي.
الدورة لم تقتصر فقط على الجانب العملي، بل شملت أيضًا تدريبًا على القيم الأخلاقية والإنسانية واحترام القانون، لتأهيل العناصر الجديدة بشكل متكامل.
ويأتي ذلك في إطار خطة الوزارة لتحديث البنية الأمنية، وإعادة دمج عناصر الخفر في المنظومة الرسمية بشكل أكثر فاعلية، لا سيما في القرى والمناطق الريفية التي ما زالت في حاجة لدورهم الحيوي.
اللواء خالد الشاذلي، الخبير الأمني، أكد في تصريحات خاصة لجريدة "اليوم السابع" أن مهنة الخفراء شهدت تطورًا كبيرًا خلال السنوات الماضية، خاصة في المناطق الريفية.
وأوضح أن الخفير لم يعد بالشكل النمطي الذي اعتاده الناس، بل جرى تدريبه بشكل حديث، وتم تزويده بمهارات جديدة، جعلته أكثر وعيًا وإدراكًا لطبيعة التهديدات الأمنية، وأكثر قدرة على الاستجابة لها.
وأشار الشاذلي إلى أن بعض الخفراء لم يعودوا يرتدون الجلباب التقليدي، بل باتوا يظهرون بزي عملي يوحي بالجدية والانضباط.
ولفت إلى أن بعضهم أصبح يمتلك حسًا أمنيًا عاليًا، ويستطيع رصد التغيرات التي تحدث في قريته لحظة بلحظة، كما أنه يشارك بفعالية في عمليات ضبط الأمن، لا سيما خلال الفترات الليلية، التي تشهد في بعض الأحيان محاولات سرقة أو تعديات على الممتلكات.
وأضاف أن الخفراء باتوا يعتمدون على أدوات تكنولوجية حديثة في التواصل، مثل تطبيق "واتساب"، لتبادل المعلومات بشكل سريع وفوري مع الجهات المعنية، ما أسهم في تقليل زمن الاستجابة في التعامل مع المواقف الأمنية.
كما أصبحوا أكثر اطلاعًا على قوانين الإجراءات، ويعلمون حدود دورهم، ما يعزز من ثقة المواطنين فيهم، ويجعلهم أكثر تعاونًا معهم.
هذه التحولات تعكس فلسفة جديدة في التعامل مع وظيفة الخفير، التي كانت تُعتبر قديمة أو بدائية في نظر البعض، لكنها اليوم تعود بروح جديدة، تحمل في طياتها ملامح رجل أمن عصري، يجمع بين المعرفة بالتقنيات الحديثة والإلمام بالبيئة المحلية فالمعرفة العميقة بطبيعة المجتمعات الريفية تظل ميزة أساسية لا يمكن أن تقدمها التكنولوجيا وحدها، وهنا يأتي دور الخفير كحلقة وصل بين المواطن والدولة، بين الأمن والشارع، بين المعلومة والاستجابة.
بهذا التطور، تتحول وظيفة الخفراء من بندقية تقليدية في يد رجل وحيد إلى خلية أمنية متناغمة تستند إلى خوارزميات حديثة وتحركات مدروسة، في مشهد يجمع بين التراث الأمني والتقدم التكنولوجي، ليؤكد أن الأمن يبدأ من القاعدة، من الرجل الذي يعرف "مين هناك" قبل أن تنطق الكاميرات أو ترصد المستشعرات.