فى أكتوبر من كل عام نحتفى بذكرى ميلاد ورحيل أمير الشعراء أحمد شوقي، إذ وُلد فى 16 أكتوبر عام 1868 فى كنف القصر الملكي، حيث تهيأت له منذ طفولته حياة الرفاهية والرعاية داخل قصر الخديوي إسماعيل، بفضل جدته التي كانت تعمل وصيفة بالقصر، من هناك بدأت حكاية الفتى الذي سيصبح لاحقًا أحد أعمدة الأدب العربي وأبرز شعرائه على مر العصور.
الموهبة التي وُلدت في القصر
منذ سنواته الدراسية الأولى، ظهرت موهبة شوقي الشعرية بوضوح، في مدرسة المبتديان الابتدائية احتل المركز الأول على زملائه، ليحصل على إعفاء من المصروفات الدراسية، ثم التحق بكلية الحقوق واختار قسم الترجمة حديث التأسيس، وهناك لفت أنظار أستاذه محمد البسيوني، الذي اكتشف في الطالب الخجول مشروع شاعر كبير، فأخذه إلى الخديوي توفيق الذي منحه رعايته وسافر على نفقته إلى فرنسا لاستكمال دراسته، حيث انفتح على الأدب الأوروبي، وتعرّف على الشعر الفرنسي ومدارسه الحديثة.
شاعر القصر وصوت الوطنية
عاد شوقي إلى القصر بعد وفاة الخديوي توفيق، ليلتحق بخدمة الخديوي عباس حلمي الثاني، الذي قرّبه منه وجعله شاعر البلاط وذراعه الأدبية في مواجهة الاحتلال البريطاني، ومن هنا بدأ شوقي يربط بين القصر والوطن في قصائده، فكان شعره السياسي يعبّر عن نبض الأمة، في حين ظلّ مخلصًا لعلاقته بالأسرة العلوية التي نشأ في رحابها.
وفي تلك الفترة كتب قصائده الإسلامية الشهيرة، من أبرزها نهج البردة في مدح الرسول ﷺ، التي أكدت تمكنه من اللغة وقوة معانيه الدينية والروحية.
من المنفى إلى المجد
قلبت الحرب العالمية الأولى حياة شوقي رأسًا على عقب، فبعد خلع الخديوي عباس حلمي الثاني، قرر الإنجليز نفي شوقي إلى إسبانيا، حيث أقام في برشلونة يطلّ على البحر، هناك عاش حنين الغربة واشتياق الوطن، وكتب أروع قصائده الوطنية، منها:
وطني لو شُغلت بالخلد عنه
نازعتني إليه في الخلد نفسي
كان شوقي يراقب البحر وكأن موجه يحمل إليه أخبار مصر، فلم ينسَها يومًا ولم تغب عن فؤاده ساعة.
عاد شوقي إلى مصر بعد الحرب ليجدها في أوج ثورتها ضد الاحتلال عام 1919، تحوّل من شاعر القصر إلى شاعر الشعب، يكتب للحرية والاستقلال والكرامة، وبات شعره لسان المصريين والعرب في مواجهة الاستعمار، وصوت الضمير الوطني في زمن الغليان.
وفي عام 1927 بايعه شعراء العرب في احتفال كبير بدار الأوبرا بالقاهرة، ومنحوه اللقب الخالد "أمير الشعراء"، ليصبح أول من يحمل هذا اللقب في تاريخ الأدب العربي الحديث.
قال حافظ إبراهيم في مبايعته الشهيرة:
بلابل وادي النيل بالشرق اسجعي
بشعر أمير الدولتين ورجّعي
شاعر المسرح والتاريخ
لم يتوقف شوقي عند القصيدة، بل أسس لما يُعرف اليوم بـ"المسرح الشعري العربي"، كتب روائع خالدة مثل مصرع كليوباترا، مجنون ليلى، قمبيز، علي بك الكبير، وغيرها، ليكون رائدًا في الجمع بين الشعر والفن المسرحي.
النهاية في كرمة ابن هانئ
قبل وفاته بشهرين، رحل صديقه حافظ إبراهيم، فرثاه شوقي بأبيات مؤثرة قال فيها:
قد كنت أوثر أن تقول رثائي
يا منصف الموتى من الأحياء
ثم عاد إلى داره "كرمة ابن هانئ" بالجيزة، وقال لسكرتيره متأملًا الحديقة:
"ترى كم قبرًا تسع هذه الدار؟" ثم أضاف بابتسامة هادئة:"ليس الموت بالمصيبة العظمى، فالقبر أبقى من الدار، وهو لا يشغل سوى عشرة أمتار، أما هي فقد شغلت خمسة آلاف!".
وفي أكتوبر 1932، أغمض أمير الشعراء عينيه إلى الأبد، تاركًا وراءه تراثًا أدبيًا تجاوز 23 ألف بيت شعر، لا يزال صوته فيها يتردّد:
وما نيل المطالب بالتمني
ولكن تؤخذ الدنيا غلابا.