حرب أكتوبر المجيدة لم تكن مجرد مواجهة عسكرية مع العدو الإسرائيلي، بل كانت اختبارًا حقيقيًا لوحدة الشعب المصري بكل أطيافه. في لحظة العبور التاريخية يوم السادس من أكتوبر 1973، لم يكن هناك فرق بين مسلم ومسيحي، بين فلاح وصعيدي، أو بين عامل ومهندس. الجميع حملوا البندقية نفسها، ورددوا الهتاف ذاته، واندفعوا إلى الضفة الشرقية للقناة كجسد واحد. في تلك اللحظة اختلطت دماء الأقباط بدماء أشقائهم المسلمين لتكتب على رمال سيناء قصة وطن لا يعرف التفرقة في ساعة التضحية.
اللواء باقي زكي يوسف: مهندس هدم أسطورة خط بارليف
وعندما نتحدث عن "المعجزة العسكرية"، كان من الصعب تجاهل دور اللواء مهندس باقي زكي يوسف، الضابط القبطي في سلاح المهندسين، الذي قدّم فكرة استخدام مضخات المياه لهدم الساتر الترابي الضخم لخط بارليف. هذه الفكرة العبقرية وُلدت من خبرته السابقة في بناء السد العالي بأسوان، حين شاهد كيف تُجرف التربة بالمياه. تحولت الفكرة إلى خطة عملية نفذها الجيش بنجاح، فانهار خط بارليف الذي وصفه العدو بأنه "لا يقهر"، لتبدأ مرحلة العبور وتكتب أول سطور النصر. إن مساهمة باقي زكي يوسف لم تكن مجرد فكرة هندسية، بل كانت مفتاحًا غيّر مسار الحرب والتاريخ.
اللواء شفيق متري سدراك.. دماء ضابط قبطي في ساحات القتال
من بين أوائل الشهداء الأقباط الذين روت دماؤهم رمال سيناء كان اللواء شفيق متري سدراك. استشهد وهو يؤدي واجبه في الصفوف الأمامية، ليؤكد أن القادة، مثل الجنود، دفعوا حياتهم ثمنًا للكرامة الوطنية. قصة استشهاده تروى كإحدى الصفحات الناصعة التي تبرهن أن الأقباط لم يكونوا غائبين عن ساحة المعركة، بل كانوا في قلبها، يقدمون حياتهم عن طيب خاطر.
شهداء آخرون في ذاكرة أكتوبر
لم يكن شفيق متري وحده من أبناء الكنيسة القبطية الذين ارتقوا شهداء. تذكر الذاكرة الوطنية أسماء مثل ألبير مترى، أحد المقاتلين الذين استشهدوا خلال الضربة الجوية الأولى، وبشاي نجيب الشرقاوي، الذي سقط شهيدًا وهو يؤدي مهمته في سلاح الإشارة. هؤلاء الأبطال، وغيرهم كثيرون، لم يبحثوا عن أضواء أو مجد شخصي، بل تركوا خلفهم أسرًا مكلومة وأمهات زغردن وسط الدموع، رافعات رؤوسهن بفخر أن أبناءهن قدموا أرواحهم من أجل مصر.
ضباط ومقاتلون أقباط في قلب المعركة
إلى جانب الشهداء، شارك العديد من الضباط الأقباط في معارك أكتوبر وسجلوا بطولات مشرفة، مثل اللواء نعيم فؤاد وهبة، والعميد ميخائيل سند ميخائيل، واللواء طيار جورج ماضي عبده، الذين خاضوا معارك ضارية في البر والجو. هذه الأسماء، وغيرها من أبناء الكنيسة، تؤكد أن النصر لم يكن صناعة فرد، بل ثمرة عطاء جماعي شارك فيه الجميع بجدارة.
المصابون.. جراح تحولت إلى أوسمة
لم يكن النصر بلا ثمن، فقد عاد مئات الجنود الأقباط وهم يحملون إصابات جسيمة تحولت مع مرور الوقت إلى أوسمة وطنية. كثير منهم فقدوا أطرافهم أو بصرهم، لكنهم ظلوا يرددون أن ما قدموه لا يساوي شيئًا أمام تحرير الأرض واستعادة الكرامة. هذه الشهادات الإنسانية تظل أبلغ من أي خطاب سياسي أو عسكري، لأنها تكشف عن الروح الحقيقية التي صنعت النصر.
المرأة القبطية.. أم الشهيد وزوجة البطل
لا يمكن إغفال الدور الإنساني للمرأة القبطية في معركة أكتوبر. كانت الأم التي زغردت وهي تودع ابنها إلى مثواه الأخير، وكانت الزوجة التي صبرت وربّت أبناءها وحدها بعد استشهاد الزوج أو إصابته. قصصهن تمثل وجهًا آخر للبطولة، فالنصر لم يُصنع في الجبهة فقط، بل شاركت فيه بيوت مصرية تحملت الألم والفقد بروح من الفخر والإيمان.
أكتوبر 1973 لم يكن نصرًا عسكريًا وحسب، بل كان شهادة على وحدة المصريين. دماء الأقباط امتزجت بدماء المسلمين، لتعلن أن الوطن لا ينهض إلا بتكاتف جميع أبنائه. من فكرة اللواء باقي زكي يوسف التي فتحت الطريق، إلى دماء الشهداء مثل شفيق متري سدراك وألبير مترى وبشاي نجيب الشرقاوي، ومن جراح المصابين إلى دموع الأمهات، تشكّل لوحة النصر التي ستظل خالدة في ذاكرة الأجيال.