فى قلب مدينة الإسماعيلية، حيث تتناثر ذاكرة التاريخ بين أزقة الشوارع الضيقة، دارت معركة 25 يناير 1952، كان المكان، الذى شهد ضجيج المدافع وهدير الدبابات، يخفى بين جدرانه قصصًا من الشجاعة والفداء.
شوارع مدينة الإسماعيلية القديمة، التى طالما استضافت العابرين، صارت مسرحًا للموت والصمود، مبنى المحافظة، الذى كان يرمز إلى السلطة، تحوّل إلى ساحة صراع حيث ارتسمت ملامح العزيمة على وجوه رجال الشرطة، وهم يواجهون جحيم القصف البريطاني.
اليوم، لا تزال الأرض هنا تحتفظ بصدى صوت البندقية، وترسم ملامح الماضى على جدرانها كأنها تحفظ ذكرى المعركة فى كل ركن وزاوية.
قبل 73 عامًا، كان صباح 25 يناير 1952 فى مدينة الإسماعيلية شاهدًا على واحدة من أعظم ملاحم البطولة فى تاريخ مصر الحديث، فى تلك اللحظات العصيبة، كانت الأرض المصرية تهتز تحت وطأة الاحتلال البريطاني، لكن رجال الشرطة تصدوا بكل شجاعة وثبات لآلة الحرب البريطانية، غير مبالين بالقوة العسكرية الجبارة التى كانت تحاصرهم.
.jpg)
اليوم السابع يوثق قصص شجاعة رجال الشرطة
في ذلك اليوم، بدأ المشهد عندما استدعى القائد البريطاني في منطقة القناة، "البريجادير أكسهام"، ضابط الاتصال المصري وسلمه إنذارًا قاسيًا: تسليم الشرطة أسلحتها وسحب قواتها من الإسماعيلية.
كان ذلك بعد أشهر من التوترات السياسية التي شهدتها مصر إثر إلغاء معاهدة 1936، لتبدأ سلسلة من الصدامات مع الاحتلال. لم يكن أمام حكومة الإسماعيلية سوى الرفض، ورفضت تسليم الأسلحة، وأبلغت وزير الداخلية فؤاد سراج الدين بالإنذار، الذي كان ردّه الواضح هو الصمود والمقاومة.
الشرطة المصرية، التي كانت تعرف حينها بـ"بلوكات النظام"، لم تتراجع في لحظة، فقد كانت المعركة بالنسبة لهم ليست فقط معركة بقاء، بل معركة وجود، اشتعلت جدران الإسماعيلية بالقنابل التي ألقتها المدافع البريطانية على المباني، وخاصة مبنى المحافظة وثكنات الشرطة.
هبت المدافع البريطانية من عيار 25 رطلاً، وكانت المدافع السنتوريون الضخمة تزمجر بشراسة. أما جنود الاحتلال، فكانوا يظنون أن الطريق إلى النصر سهل، لكنهم لم يكن يعلمون أن رجال الشرطة سيصمدون رغم كل شيء.
"لن تتسلمونا إلا جثثًا هامدة" هذه الكلمات الشهيرة التي أطلقها النقيب مصطفى رفعت، الشاب الضابط الذي لم يتردد في مواجهة العدو. "لن تتسلمونا إلا جثثًا هامدة"، هكذا رد على الإنذار البريطاني، ليكون تلك اللحظة المضيئة في تاريخ البطولات المصرية.
كانت تلك الكلمات صرخة تحدٍ وهزّت القائد البريطاني أكسهام، الذي لم يتوقع تلك المقاومة الشديدة، عادت المدافع لتدوي فوق رؤوس رجال الشرطة، لكنهم كانوا في مواقعهم، يقاومون ببنادقهم القديمة "لي إنفيلد"، يواجهون القوة العسكرية البريطانية الحديثة بكل ما يملكون من إيمان وأمل.
لم يكن لديهم ما يكفي من الذخيرة لمواصلة القتال، لكنهم صمدوا حتى آخر طلقة،. وبالرغم من ذلك، لم تُخلِ المقاومة الأرض، بل كانت تسجل أروع صور الصمود والتضحية.
.jpg)
الزميل محمود عبد الراضى يستعرض البندقيات المستخدمة
ضحايا وشهداء من أجل الوطن
الساعات التي تلت ذلك الهجوم كانت مليئة بالدماء والشجاعة، استشهد في هذه المعركة 56 من رجال الشرطة، وأصيب 80 آخرون بجروح متفاوتة، بينما سقط من الجنود البريطانيين 13 قتيلا و12 جريحا، لكنها لم تكن فقط معركة في الأعداد، بل معركة في العزيمة.
بقي العديد من الضباط والجنود على قيد الحياة، ليشهدوا بأعينهم على قوة المقاومة التي كانت مفاجئة للجميع، أما الجنرال إكسهام، قائد القوات البريطانية، فلم يستطع إخفاء إعجابه بشجاعة رجال الشرطة المصريين فقد أعطى أوامر لأفراد جيشه بأداء التحية العسكرية للشرطة المصرية عند خروجهم من أمام دار المحافظة، تكريما لما أبدوه من شجاعة وتضحية. تلك اللحظة كانت بمثابة الاعتراف من قبل العدو بقوة صمود الأبطال الذين لم يسمحوا للمحتل بأن يمروا عبر أرواحهم.
.jpg)
معركة ستظل خالدة في الذاكرة
ما زال تاريخ 25 يناير 1952 ماثلًا في ذاكرة كل مصري، معركة الأسماعيلية التي جسدت بطولات رجال الشرطة، ففي تلك اللحظات العصيبة، رسم هؤلاء الرجال لوحة من الشجاعة التي لا تنسى، فصمودهم لم يكن مجرد دفاع عن مدينة أو منطقة، بل كان دفاعًا عن كرامة الأمة بأكملها.
في ظل تلك اللحظات التاريخية، يبقى ذلك اليوم شاهدًا على أن التضحيات لا تُقاس بالعدد، وأن النصر الحقيقي يكمن في القدرة على الاستمرار في المقاومة حتى آخر رمق.
اليوم، في ذكرى معركة الإسماعيلية، تظل صور هؤلاء الأبطال تتردد في أذهان الجميع، وتُكتب أسماؤهم في سجلات الشرف الوطنية، لتبقى معركة الإسماعيلية رمزًا خالداً لمقاومة الشعب المصري ضد الاستعمار البريطاني، ولتظل أبطالها في ذاكرة الأجيال القادمة، يتغنون بها جيلاً بعد جيل.