أضحكنا دهرًا ومات "مكتئبًا".. الوجه الآخر لصانع الكوميديا فؤاد المهندس
تجمد عند رؤية حجرته تحترق.. والنيران تنهش تاريخه أمام عينيه
التعيس "الضاحك" قتله "الحزن" وسلمه فورا للموت
النيران تسرى لا يمكن إيقافها، تمر بين رفوف الإنجازات، تأكل دروع التكريم تارة، وتنتقل لتنهش في جوائز التكريم تارة أخرى، انهارت الرفوف في نهاية المطاف بعد أن تفحمت تمامًا، لينهار معها العظيم صانع "البهجة" لينتهى عصر فرحته ويبدأ العداد التنازلى لوفاته "مكتئبًا"!
فؤاد المهندس، صانع البهجة، أسطى الكوميديا، الكثير من الألقاب لا تكفى هذا العبقرى، أضحكنا لسنوات، والمفارقة أنه مات يعانى من مرض الاكتئاب، بعد سلسلة حزينة ومتتالية من الأحداث المفجعة التي توالت عليه في أواخر حياته، لتنهك روحه وتؤلمها، ويقع مكتئبًا لا يتمكن من مقاومة هذا الوحش الذى ينهش الروح.
عبقرى الضحك.. صانع البهجة
في ذكرى ميلاد عبقرى الضحك، الذى يعتبر أشهر الفنانين المصريين، ولد في يوم 6 سبتمبر 1924 فؤاد زكي المهندس الشهير بـ فؤاد المهندس في منطقة العباسية بالقاهرة، عاش عمره الفني متألقًا ومتنقلاً بين الأدوار، ينشر لنا الكوميديا الجميلة الهادئة، المتزنة، والتي أثقلتها خلفيته الثقافية الهائلة، فكان متقنًا لأكثر من لغة، ومتمكنًا وضليعًا في اللغة العربية نتيجة تربيته على يدي والده، ليتربع على عرش كوميديا المسرح والتليفزيون.
من منا ينسى "كلمتين وبس" هذا البرنامج الاذاعى الذى تربينا على سماعه الساعة الثامنة صباحًا من كل يوم، ليقول فيه "الأستاذ" كلمتين لا ثالث لهما، يركز فيهم النصيحة والمعلومة، ويعطينا جرعة أمل صباحية، في أواخر أيامه.
عبقرى الكوميديا.. الذى صنع من الضحك علاج ورسالة
من عاش يضحكنا مات مكتئبًا، أليست مفارقة غريبة! هذا العبقرى عاش عمره يحاول إسعاد الآخرين، كان يري في الكوميديا ضحكًا هادفًا، تقدم دورًا، تحدث أثرًا، تمتع المشاهدين وتدهشهم وتنفعهم، فهذا الفيلم الأشهر "أرض النفاق" الذى أضحكنا فيه وعلمنا أهمية القيم السامية، الصدق والحب والعطاء، ونفرنا من الضغائن الدنيوية، النقاق والرياء والتملق والكذب! كان يدس الرسالة التربوية داخل جرعة كوميدية خفيفة، فتظل وتصل وتؤثر بطريقة سهلة وسلسلة.
هذا العظيم العبقرى المضحك صانع "الضحكة"، لم يهزمه شيء في الحياة، مثلما هزمه مرض "الاكتئاب"، هذا الوحش الذى يقتل صاحبه، يجعله ميتًا في جسد حى، ففي عامه الأخير في دنيانا، عام 2006، باغتت الآلام والأحداث المفجعة هذا النجم الكبير، بدءًا بوفاة سناء يونس الممثلة التي كان يفضلها ويعتبرها بمثابة الابنة والصديقة، ما أن بدأ بالتحسن، حتى باغته خبر وفاة أقرب أصدقائه، ليقع حزينًا تعيسًا، ولم تكتفِ الدنيا بإتعاسه، ليقضى حريق اندلع في حجرته الخاصة في منزله، على آخر مظاهر الحياة لديه، لتنطفئ روحه، ويهزمه الاكتئاب والحزن والتعاسه.
نجل الراحل "فؤاد المهندس" ابنه "محمد" المقرب منه، وكان أهم الشخصيات في حياته، وصف في لقاء، هذا المشهد التعيس والمفجع في حياة والده، واصفا إياه بـ"القشة التي قصمت ظهر والده"، وطرحته أرضًا بعد سلسلة من الأحداث الحزينة المتتالية، ليدخل في نوبة إكتئاب استمرت لشهور، حتى لفظ في أنفاسه الأخيرة في سبتمر من العام.
ومن الحزن ما قتل.. حتى من اتخذ "الضحك" علاجًا للأحزان
الحزن قاتل، لا تستهن بهذه الجملة، فالحزن شرس، يقدر على ما لم تقدر عليه الأمراض الفتاكة، فهو يقتلك "حيا" مثلما فعل بإمبراطور الكوميديا، الذى عمد إلى استخدام "الضحك" في وطفات الحياة والتفاؤل، ولكن لم تكن قوته كافية للانتصار أمام الإكتئاب .
يقول الأطباء والأبحاث، أنه طالما حضر الاكتئاب، مات الشغف، انطفى الأمل، تشعر بالرغبة في الإنعزال، تكره التجمعات، تحب الوحدة، تقل دافعيتك، لا رغبات لديك، تستيقظ يوميا مضطرا، وتنام مضطرا أيضا، كى تمرر هذا اليوم الثقيل على قلبك وبدنك، يمكن للإكتئاب أن ينال من صحتك، يؤثر على كل وظائف الجسم، يصيبك بالشلل في جسد معافى، يؤثر على الحركة، والأعصاب والقلب وحتى القدرة على الحديث، تقل رغبتك تدريجيا في الحياة، فتتمنى الموت!
اضحكنا دهرًا.. فمات "مكتئبًا"
فهذا الفنان صاحب أِشهر مسرحية "ساعة لقلبك" لم يتحمل قلبه رؤية حريق حجرته الخاصة، تلك الحجرة التي كانت بمثابة "المحراب" والدليل لروحه، كان يقتنى ويحتفظ فيها بكل دروع التكريم التي حصل عليها خلال مشواره الفني الذى تخطى الخمسين عاما كاملة، ويرص على أرففها الأنيقة الجوائز التي حصل عليها واحدة تلو الأخرى، وعندما رأها تحترف، وتتهاوى الأرفف المتفحمة، ظل ساكنًا مستسلمًا لهذا المشهد، معلقًا عينيه عليها، يراها تتهاوى، فيزيد حزنه، وتنزف روحه، ليصاب بالاكتئاب بعدها حسبما أكد نجله "محمد".
وصف "محمد" هذا المشهد المفجع "دخلنا عليه حجرته حيث كان جالسا على سريريه، بعد أن رأينا دخان متصاعد من حرجته، وإّذا بنيران كثيفة تسرى في أرجاء الحجرة ونهشت أغلب مقتنياتها، فوجدناه صامتا ساكنا ناظرا لها دون حركة وباستسلام تام، فأسرعنا بإخراجه"، هكذا هو الاكتئاب، يجعلك متجمدا مكانك دون حراك، حتى في أبشع المواقف وأخطرها، فلم تهمه حياته، ولم يهتم للنيران التي كانت سوف تصل إليه عاجلا أم آجلا، هذه الحادثة أنهكت وأنهت على آخر أسباب الحياة لدى الفنان العظيم، فتركته فريسة الإكتئاب في أيامه الأخيرة حسب تأكيد إبنه، ليتوفى بعد هذه الحادثة بشهور قليلة، مودعا نصف عقد من التميز الفنى الكوميدي الفريد، وترك العلامة الأبرز في عالم الضحك والكوميديا الهادفة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة