من البديهيات المتعارف عليها عقديا وسياسيا واجتماعيا في كافة المجتمعات، أن وَحْدَة أفراد المجتمع وانسجامه فكريا وعاطفيا، وارتباطه بقادته وساسته من أهم عوامل تحقيق الأمن والأمان والاستقرار والتقدم والرقي لهذه المجتمعات، قال تعالى: " وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ "آل عمران 103، بَيْدَ أن بعض النفوس المريضة المُنتكِسة فطرتها المُجرّدة من كل معاني الإنسانية، يقلقها ويؤجج مضجعها مثل هذه الوحدة وذاك الانسجام، ونتيجة لذلك تعتري المجتمعات بعض العلل والأمراض كالتطرف الفكري.
ونذكر بأن التطرف الفكري يشير إلى خروج الفرد عن سياق القواعد والمبادئ والقيم التي يؤمن بها المجتمع، ويحدث هذا بعد تبنّيه لسلوكيات ضارة ومتطرفة تتنافى مع مبادئ الدين الحنيف، ولا تتسق مع مقاصد الشريعة وثوابتها الراسخة؛ نتيجة لأنماط فهم عقدي خطأ يأتي من مصادر عديدة غير موثوقة.
ويحاول الترف الفكري النيل من هذه الوحدة وذاك الانسجام من خلال بث أفكار سلبية وسامة وهدامة في عقول النشء؛ ليصبح المُتطرف متحورا حول ذاته منغلقا عليها، لا يَعرفُ معروفًا ولا يُنكِرُ مُنكرًا إلا ما أُشْرِب من أفكاره المُتطرِّفة، ينفث السموم ليطعن في رموز مجتمعه، ويجتهد لينل من مقدراته.
ويُقوِّض التطرف الفكري الرؤى المستقبلية للمجتمعات، وعلاقاتها مع غيرها، وآمالها التنموية في كافة المجالات، ويعزز من التعصب والطائفية التي تزيد لهيب النزاعات داخليا وخارجيا، ويعطي مبررا للتعدي على الآخر ونهب ماله وسفك دمه، واستباحة مقدرات الدول والاستيلاء عليها، ويهيئ المناخ لانتشار الإرهاب الأسود.
إن الإنسانية وفق طبيعتها المسالمة المحبة للحياة عندما تفقد وسطية الفكر؛ فإن النتيجة المحتومة أن نشاهد ممارسات تخالف ما تنادي به العقائد السماوية من حفاظ على النفس والمال والعهد والميثاق والحرص على تكوين شراكات لإعمار الأرض وصيانة بيئتها وحماية مقدراتها؛ كل هذا يذهب أدراج الرياح في ضوء الفلسفة التي يقوم عليها الفكر المنحرف.
وفي ضوء ما تقدم يتأكد أن التطرف الفكري يقوض النهضة والإعمار؛ فممارسات أصحاب الفكر المنحرف تضير بمناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وفي المقابل تعزز السلطوية والديكتاتورية وتمحو حرية الإنسان المسئولة التي منحها الله تعالى إياه، وتجعل الجميع رهن الأمر والطاعة العمياء التي تهلك الحرث والنسل وتؤدي لسقوط المجتمعات في معامي التيه.
ونوقن بأن المجتمعات تقوم وتؤسس على الأمن الفكري الذي يحميها ويصون مقدراتها؛ فهو الحصن المنيع لها، كما أن تحقيق غايات الدولة ومصالح العباد وشيوع روح المودة والتعاون مرهون بفكر رشيد ووعي سديد، وإدراك صحيح لمآل الأمور.
ويستهدف الأمن الفكري بناء عقيدة صحيحة مصحوبة بنسق قيمي وأخلاقي، وحماية العقول من الغزو الفكري والانحرافات الفكرية، ومن ثم تحقيق الاستقرار النفسي والاجتماعى؛ لأن فلسفته تقوم على تحقيق الطمأنينة بناءً على سلامة الفكر والاعتقاد.
ويستهدف المغرضون تهميش الثوابت المجتمعية بغرض إضعافه وتزييف وعيه وتشويه فكره، ويتم القضاء على مسارات القرصنة الفكرية من خلال تفعيل مقومات الأمن الفكري، ويواجه الأخير سمسرة ثقافية تضعف العمل بالمبادئ وتخدش ما تتضمنه القيم من معاني، كون السمسرة هنا تعبر عن آليات الوساطة التي تستورد الفكر الذي لا يتفق مع وسطية المعتقد ومنظومة القيم المجتمعية التي يؤمن بها المجتمع.
ويتسق الأمن الفكري مع ماهية الأمن الوطني؛ حيث إن كليهما يحرص على الدفاع عن النسق القيمي والمعتقد الذي يتبناه ويؤمن به المجتمع، ومن ثم يتشكل الكيان السياسي الذي ينظم أطر التعامل والتعاون ويضمن التماسك بين جميع الأفراد داخل هذا المجتمع، ويحافظ على الحياة ويأصل سُبل استقرارها، ومن ثم يعزز من مقومات الأمن القومي ويدعم ماهية التعايش السلمي؛ حيث العمل على حماية الوطن من النفاق والهزل السياسي، والعنف، وتدمير الأرواح، والممتلكات.
وتشارك كافة المؤسسات المجتمعية، الرسمية منها وغير الرسمية، وفى مقدمتها المؤسسة التعليمية في تعزيز الأمن الفكري، من خلال دعم المعلومات والاتجاهات والمهارات التي تعزز السلام العالمي وما يرتبط به من مفاهيم، وقبول وتقدير واحترام الآخر وإكساب الأفراد مهارات وقيم ومعايير المواطنة العالمية.
ومن مقومات الأمن الفكري مجموعة الخبرات الصحيحة التي تتأتى من تعليم مقصود، وتسهم في تعضيد الثقافة بتنوعاتها؛ بالإضافة إلى التوعية المقصودة بالمخاطر والانحرافات الفكرية وتأثيرها على الاستقرار الاجتماعى، ولا مناص عن تعاون بين مؤسسات الدولة المختلفة بشأن العمل الجاد لمكافحة التطرف وتوطين القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، وإكساب الأفراد مهارات التفكير النقدي والتحليلي والقدرة على التمييز بين المعلومات الصحيحة والمضللة والشائعات.
ومن طرائق تحقيق الأمن الفكري العمل على حفظ التوازن بين حماية الأفراد والمجتمعات وحقوقهم في حرية التعبير والرأي بصورة مسئولة، تحقق مصلحة الأوطان، ولا تدعوا للهدم بطرائقها المختلفة، مع سلامة المعتقد ووسطيته، والتأكيد على ضمان الشفافية والمساءلة في تنفيذ إجراءات الأمن الفكري.
ويواجه الأمن الفكري تحديًا كبيرًا إزاء التطور التقني المتسارع وانتشار وسائل التواصل الاجتماعى عبر كفاءة غير مسبوقة لشبكة الاتصالات الدولية، بما يؤدى إلى تزايد المخاطر المتعلقة بالانتشار السريع للمعلومات والأفكار غير الموثوقة والمضللة، مما يتطلب مزيدًا من الجهود لتعزيز الوعي وبناء المناعة ضد الأفكار المتطرفة والضارة.
وفي الحقيقة هناك دور فاعل وجهود مضنية لوسائل الإعلام في تحقيق الأمن الفكري الذي يعد لبنة البناء والنهضة للجمهورية الجديدة؛ حيث تقديم المعلومات الموثوقة والمتوازنة والصحيحة والعمل على تنمية وعى الأفراد، وتنمية مهارات التفكير النقدي لديهم اعتمادًا على شاهد ودليل، وإعدادهم ليكونوا صناعًا للمعرفة لا مستهلكين لها، بما يعظم من مناخ التسامح والاحترام المتبادل والمساواة والعدالة كأساس للتعايش السلمي.
وجهود الدولة المصرية واضحة حيال تعضيد الأمن الفكري لدى أبناء الأمة؛ حيث تنظم وتقام ورش العمل والندوات والحوارات الوطنية المفتوحة لمناقشة شتى القضايا؛ لتوضيح التأثيرات السلبية للفكر المتطرف، وتقديم طرق علاج فورية بواسطة النقاش الحر؛ حيث تتضح الرؤى وتنمى مهارات التفكير الناقد، ويتم التأكد من صحة ومصادر المعلومات وموثوقيتها؛ لفهم الأمر قبل اعتماد الآراء، ناهيك عن فاعلية النقاش في تصويب المعتقد الخطأ.
وإذا ما أردنا أن نطلع على مدى اهتمام الدولة وقيادتها السياسية تجاه قضية الأمن الفكري نجد أن الدولة المصرية وقيادتنا السياسية الحكيمة كان لها السبق في قراءة المشهد بشأن قضية الأمن الفكري؛ حيث وجهت مؤسسات الدولة للعمل على تمكين الشباب والتأكيد على دورهم المحوري في مكافحة التطرف والعنف والإرهاب ونبذ الأفكار المضللة وتفنيد الشائعات وأن يكونوا حائطا منيعا عن المجتمع من خلال تقديم نظام تعليمي متميز وبرنامج تدريبة تنويرية وإكسابهم المهارات الحياتية والتوجيه الوظيفي للشباب للقيام بدورهم الإيجابي في وطنهم الغالي.. ودي ومحبتي لوطني وللجميع.