قبل أيام من انتهاء سنة 1923 وصلت إلى القاهرة السيدة «علياء حسين المنذر» تسحب أطفالها الثلاثة، فؤاد وفريد وآمال، أبناء فهد بن فرحان إسماعيل الأطرش، ابن عم سلطان باشا الأطرش، قائد ثورة جبل العرب التى اندلعت لتعم سوريا قبل ذلك بعام واحد، وجاءت علياء بأطفالها هربا من ملاحقة الاحتلال، حسبما يذكر الدكتور نبيل حنفى محمود فى كتابه «فريد الأطرش ومجد الفيلم الغنائى».
فى القاهرة شق فريد وآمال، التى أصبح اسمها أسمهان، طريقهما الفنى ليصبحا من أهم نجومه التاريخيين فى الغناء، وتوالت نجاحات فريد الكبيرة، وينقل حنفى محمود عن الموسيقار محمد عبدالوهاب قوله: «لا يستطيع أن يتصدى مؤرخ لتاريخ النهضة الموسيقية فى هذه الفترة من عمر الزمن دون أن يقف طويلا أمام فريد الأطرش كرائد من الرواد الأوائل، وعلم من أعلام اللحن والغناء لم يحد يوما عن فنه العربى الأصيل».
كان هناك من يقف وراء نجاح فريد، وهو ما كشفه لمجلة الكواكب، عدد 317، فى 27 أغسطس، مثل هذا اليوم، 1957، قائلا: «الحياة هى أستاذى الأكبر بأيامها القاسية ولياليها الطويلة، هى الأستاذ الذى تتضاءل إلى جانبه الجامعات والمعاهد ونظريات الفلاسفة ومدارس الفكر».
بعد هذا التحديد العام، خص فريد ثلاث شخصيات اعتبرهم أساتذته الحقيقيين، مؤكدا أن أمه هى أستاذه الأول، قائلا: «من أمى تعلمت الغناء، كان صوتها حنونا ناعما ينساب إلى أذنى وأنا طفل صغير وهى تهدهدنى لأنام، وكم كنت أشقيها لأن النوم كان يستعصى على إذا سمعت صوتها، كان عندها عودا تعلمنى عليه، وكانت تشرك فى التعليم شقيقتى المرحومة أسمهان، فإذا ما أعطتنا كل ما عندها من علم ومعرفة، سعيت إلى أستاذ فى الموسيقى ليعتنى بنا، كانت تبيع كل ما فى يدها من حلى، وكل ما يصل إلى يدها من معونة الأهل لتنفق علينا، وفى ظل هذا التشجيع بدأت أغنى، أمى كانت جمهورى الأول، تنصت إلى فى إعجاب، وتودع فى نفسى الثقة وتنمى فى صدرى الحب للموسيقى والألحان».
يكشف «فريد» أن أستاذه الثانى هو محمد العربى، مواليد 1898، وتوفى عام 1941، وملقب بسلطان الغناء البلدى، ويقول عنه: «كان صوته يطربنى أشد الطرب، وكانت موسيقاه شرقية صميمة، وهو الذى فتح أذنى وذهنى لجمال الموسيقى الشرقية فعشقتها عشقا، كان مطربا مصريا تشيع فى مواويله وأغانيه المعانى التى تلمس القلب، كنت أردد له موالا مشهورا هو «عوضنا على الله فى شقانا وتعبنا/ واللى بحبه ما لاف للفقير وتعبنا/ ياما جرينا وراه فى كروم ونخيل وتعبنا/ كتير من الناس يقولوا يا جدع سيبه وارتاح/ أنا من يوم ما هويته ملا جسمى السليم جراح/ ما راح شقانا على الأندال وتعبنا».
يتذكر «فريد»: «كان العربى يغنى فى الأفراح والسرادقات التى تمتلئ بعلية القوم، وكنت صبيا صغيرا أخرج من المدرسة لأسأل أين يسهر العربى، وأذهب إلى حيث يكون، وهو غالبا ما يكون فى فرح، وأقف أمام السرادق أتحين فرصة التسلل فيها من الحراس، أو أجد أسرة كبيرة العدد تدخل دفعة واحدة فأندس بين أولادها، وقد يحكم على مزاجى فى الاستماع أن أظل ساهرا طوال الليل إذا تعذر على الدخول، أو إذا دخلت وتتبعنى أحد الحراس فحملنى حملا وعاد إلى الباب ليقذفنى إلى الطريق من جديد، ثم أعود إلى البيت فأجد أمى ساهرة تنتظرنى، وتزجرنى زجرا فيه حنان، فهى تعلم لماذا أسهر؟ ولماذا أتحمل برد الليل أو وقفة الطريق، العربى هو الذى غرس فى حب الأغانى الشعبية، التى أحرص على ألا يخلو فيلم من أفلامى منها».
أما الأستاذ الثالث لفريد فهو المطرب عبداللطيف البنا، المولود عام 1884 والمتوفى عام 1969، ويكشف «فريد» درجة تأثره به، قائلا: «أحببت فى عبداللطيف البنا طريقته فى الأداء، وهى طريقة كانت فى زمانها أحب ما يرهف إليه الناس آذانهم، وكنت أحلم بأن أراه، ولكن هذا الحلم لم يتحقق فى حياتى مرة واحدة، وسعيت إلى تحقيقه ففشلت، وذهبت مرات كثيرة إلى حيث كان يغنى، ولكنى لم أستطع التسلل، فقد كانت الحراسة على سرادقاته شديدة أشد بكثير من الحراسة على سرادقات محمد العربى وأفراحه».
يضيف «فريد»: «كنت أجد وسيلة أخرى للاستماع إلى البنا، كنت أستمع إلى أسطواناته التى تذاع فى الفونوغرافات بالمقاهى، ولأننى صبى صغير لا يملك ثمن كوب الشاى لأجلس وسط الرجال فى المقهى، كنت أكتفى بالوقوف أمام المقاهى التى تقدم فونوغرافاتها أسطوانات البنا، وأنا أحمل كتبى، وأحيانا أتأخر عن الذهاب إلى المدرسة إذا استمعت لأسطوانة فى الصباح، ولم أحزن يوما لأننى تأخرت، فأنا كنت أعتقد أن مدرستى الحقيقية هى أمى والعربى وعبداللطيف البنا».