حازم حسين

بطّة عرجاء ونمرٌ من ورق.. هدنة غزة بين المحتل والممانع وعودة واشنطن المتأخرة

الأربعاء، 21 أغسطس 2024 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

تُديرُ الولايات المتحدة مُحرِّكاتها على أقصى سرعةٍ مُمكنة فى الشرق الأوسط. حلَّ «بلينكن» بالمنطقة للمرة التاسعة تقريبًا منذ اندلاع العدوان الوحشى على غزة، والتقى الرئيس السيسى فى العلمين الجديدة أمس، وقبلها تردَّد المبعوثُ آموس هوكشتاين بين تل أبيب وبيروت، ونزل بريت ماكجورك كبير مُستشارى بايدن، ورئيس الاستخبارات المركزية وليام بيرنز، فى العاصمة القطرية الدوحة لمُواكبة الجولة الأُولى من أحدث محاولات التهدئة. كأنَّ البيتَ الأبيض يُعوِّضُ فاصلاً طويلاً من الرخاوة وخِفَّة الإدارة، ويسعى لاستدراك ما فاته فى السِّعَة، بعدما ضاق الوقتُ وتعقَّدت الأوضاع، ولم تعُد المسألةُ محصورةً فى استمرار حرب الإبادة ضد القطاع؛ بل تُدفَعُ بنوايا واضحةٍ من جانب اليمين الصهيونىِّ باتِّجاه صدامٍ إقليمىٍّ واسع، لن يُوفِّر المواردَ والأُصولَ الأمريكية فى المنطقة من رُزمة حساباته الصاخبة، وستترقَّى تكاليفُه المُحتملَة إلى خسارة الديمقراطيين فى الانتخابات الوشيكة، فضلاً على تكاليف الانخراط المُباشر فى الميدان، وارتداداته على أجندة واشنطن وبقيَّة مصالحها الحيويَّة، فى واحدةٍ من أهمِّ ساحات نفوذها، وأكثرها إنتاجًا للتوتُّر والصراعات.

لا تعكسُ الورشةُ الجديدة تغيُّرًا فى رؤية الإدارة الديمقراطية؛ إنما تُترجِم استقراءً ديناميكيًّا لحركيَّة الجبهة المُشتعلة عند قَدَمَى الدولة العبريَّة، وشَررِها المُتطاير حول رأسها من ناحية لبنان وحزب الله. والأكيدُ أنَّ الرئيس بايدن لم يتخلَّ عن صهيونيَّته الراسخة، ولا يُفاوض على أمن إسرائيل ومصالحها الاستراتيجية؛ لكنه صار أكثر تحرُّرًا من حسابات الانتخابات، بعدما غادرَ السباقَ مُقدِّمًا نائبتَه كامالا هاريس. وإذ يدخلُ على خطِّ النزاع الآن بحيويَّةٍ أكبر ممَّا سبق؛ فإنّه يتطلَّعُ لاختتام ولايته بإنجازٍ يُضاف لرصيده الشخصىِّ، ويُتوِّجُ رحلتَه الطويلةَ فى السياسة الأمريكية، كما يلعبُ مُباراته الأخيرةَ لصالح الحزب، إزاء مخاطر الصعود الجمهورىِّ للهيمنة على السلطتين التنفيذية والتشريعية، ولعلَّه يُحاول القصاصَ من إهانات نتنياهو التى طالته بأضرارٍ مُباشرة، أو على الأقلِّ يُنقذُ تلَّ أبيب من نزواته، ويُنقذه شخصيًّا من نفسه.. وهكذا يُضافُ للاعتبارات الأخلاقية والعسكرية فى طَلب الهُدنة؛ أنها تُلبِّى احتياجًا حقيقيًّا لدى واشنطن، يبدأ من ترميم الرمزيَّة القِيَميَّة التى تشقَّقت فى شهور التوحُّش، ويمتدُّ لتحصين وجودِها الإقليمىِّ من المخاطر والمقامرات، وألَّا تُسىء الحسابات فى الشرق العربى؛ فتخدم موسكو وبكين فى شَرقَى أوروبا وآسيا.

استعرض بلينكن مع الرئيس السيسى مُستجدّات الجهود الإنقاذية لخطَّة التهدئة، وما تبذلُه مصر مع الوسيطين الأمريكى والقطرى لسدِّ الثغرات وتقريب الرُّؤى؛ لكنّه سمع منه مُجدَّدًا قائمةَ الثوابت المصرية بشأن المسألة. القاهرة واضحةٌ منذ باكورة الأزمة؛ لناحية أنها مُلتزمةٌ أخلاقيًّا وقوميًّا تجاه الأشقاء، لكنها مَعنِيَّةٌ بأمنها القومىِّ بالدرجة نفسها، ومثلما لا تقبلُ النقاشَ أصلاً فيما يخصُّ التهجيرَ القسرىَّ ومُحاولات تصفية القضية؛ فإنَّ كلَّ ما يتضادُّ مع إنهاء الحرب وفَتح مسارٍ للسياسة على قاعدة «حلِّ الدولتين»، ليس من عناصر رُؤيتها ولا ما تتداولُ فيه، أو تستسيغُ وَضعَه على طاولة الحوار. وفى تلك النقطة تحديدًا؛ فإنها لا تقبلُ عودةَ إسرائيل لاحتلال القطاع، ولا هيمنتَها على خطِّ الحدود ومعابره، وتبدأ أيَّةُ مقاربةٍ بشأن «اليوم التالى» لديها من الشراكة الفلسطينية فى الحلِّ، وأَخْذِ السُّلطة الشرعية زمامَ المُبادرة فى الإدارة وخطط الأمن والإعمار. وعليه فإنَّ الاشتباكَ القائم بين الاحتلال والفصائل، لا يصرفُ النظرَ عن الأُسس الموضوعيَّة للقضية، وركيزتها أنَّ المُشكلةَ الأُمَّ فى الاحتلال لا المُقاومة، وأنه لا يُمكنُ تمرير أىِّ تصوُّرٍ يقضم الحقوقَ العادلة من أصحابها، أو يُؤسِّسُ لمسارٍ بديلٍ عن أُطر القانون والشرعية الدولية.

قبل ساعاتٍ من وصول الوزير الأمريكى، نفى مصدرٌ مصرىٌّ رفيعُ المستوى ما تردَّد فى الإعلام الإسرائيلى عن قَبول القاهرة لبقاء جيش الاحتلال فى محور فيلادلفيا/ صلاح الدين، على خطِّ التَّمَاس بين غزَّة وسيناء، وجدَّد التأكيد على وُجوب الانسحاب الكامل من المحور ومعبر رفح. تلك النقطةُ قِيْلَ إنها من خلافيَّات التفاوض فى جولة الدوحة؛ إذ بعدما نزل نتنياهو سابقًا على شُروط الورقة الأمريكيَّة التى اقترحها بايدن، ومحورها أن يتزامنَ تبادُل الأَسْرى مع إخلاء القطاع، أو مفاصله الحيوية على الأقل، فى المرحلة الأُولى للصفقة؛ عاد إلى لُعبته المُتكرِّرة لتفخيخ طاولة التفاوض بمزيدٍ من الشروط المُتصلِّبة، وكلُّها تقريبًا نابعةٌ من عِنديَّاته، ولا تُلاقيه عليها أغلبُ الطبقة السياسية فى تل أبيب، ولا حتى الجنرالات ورؤوس الحرب. وهو إذ يُرسلُ الوفودَ الأمنيَّة مُطوَّقةً بالقيود ومحدوديَّةِ الصلاحيات، يُهَندِسُ معركةً نفسيَّةً تستمرئُ حالَ الابتزاز والتصعيد؛ فإمَّا يتوصَّلُ من خلالها إلى مكاسب أكبر ممَّا منحَه الميدان، وإمَّا يُعطِّلُ المسارَ ويستبقى دائرةَ النار التى يحتمى بها من المُساءلة والاستحقاقات الواجبة داخليًّا وخارجيًّا، وإلى أن يُرتِّبَ أوراقَه للبحث عن اشتعالٍ جديد، أكان مع الحزب فى لبنان، أم باستدعاء إيران بالأصالة فى مُواجهةٍ مُباشرة، تكونُ الولايات المتحدة بَيدقًا على رقعتها، لا قائدًا ولا صاحب قرار.

الطرفُ الآخرُ يرى الفِخاخَ المنصوبةَ تحت كومة القشِّ الجاهزة للاحتراق. بإمكان محور المُمانعة؛ لو مضى فى مسألة الردِّ على اغتيال إسماعيل هنيَّة وفؤاد شكر، أن يُؤلِمَ دولةَ الاحتلال فِعلاً فى ضربته الافتتاحية، حتى مع احتشاد الترسانة الأمريكية الكاسحة؛ لكنَّ المُغامرة وقتَها ستكونُ آخرَ عهده بالمُعادلة الفلسطينيَّة القائمة. لقد علَّقوا كرامتَهم المُهدَرَة على شَمَّاعة البحث عن هُدنةٍ فى غزَّة، وينتظرون إنجازَ الاتِّفاق أو إطالةَ أَمَد التفاوض؛ حتى تبرُدَ العواطفُ وتنطفئ رغبةُ الثأر. تردَّدَ مثلاً أنَّ طهران احتضنت فى الأسبوع الماضى اجتماعًا لمُمثِّلى الأذرُع النَّشِطَة تحت عنوان «وحدة الساحات»، وبينما توقَّع الآتونَ من لبنان والعراق وسوريا واليمن أن تُدرَسَ خُطط الردّ وتنسيق العمليَّات والأدوار، فُوجئوا بأنَّ رجالَ الحرس الثورىِّ يُطالبونهم بالصبر والانتظار. ربما لا ينسجمُ ذلك مع دعايات الصقور فى إيران، وأحاديثهم المُتكرِّرة عن مُعاقبة الجُناة واستيفاء حقوق الضحايا؛ لكنه يتوافقُ مع المنطق والمصلحة، ولا يخرجُ عن انحياز الشيعيَّة المُسلَّحة لنظرية «الصبر الاستراتيجى»، فضلاً على أنه يُفسِّرُ الإشارات المُتواترة عن مُفاوضات غير مُباشرةٍ مع واشنطن فى عُمان وغيرها، ولقاء البعثة الدبلوماسية فى الأُمَم المُتَّحدة بمسؤولين أمريكيِّين. وهكذا فإنَّ عِمامةَ المُمانعة أمام خيارين لا حيرةَ فيهما: تسخين الأجواء مع ما فى ذلك من مُخاطرةٍ مُرعبة وغير مضمونة، أو ابتلاع الإهانة مُقابل تحصيل مكاسب ماديَّة ومعنوية، حالّة ومُرجأة، أعلاها استبقاء الأطراف التابعة آمنةً، واستنقاذ المشروع النووى من الاستهداف، وأدناها التمثيلُ من وراء ستار فى ورشة الهُدنة، كما حدث مُؤخَّرًا باتِّصال رئيس الوزراء القطرىِّ بوزير الخارجية على باقرى وسطَ أجواء التفاوُض فى الدوحة.

فى أوَّلِ الأمر؛ قرَّر المُرشد الأعلى على خامنئى استدعاءَ إسماعيل هنيَّة على وجه السرعة، وأبدى ضيقَه من إطلاق «طوفان الأقصى» دون مُشاورةٍ أو استئذان، مُشدِّدًا على أنَّ الجمهورية الإسلاميَّة لن تخوضَ حربَ حماس بدلاً منها، وعلى الحركة أن تُسكِتَ الأصواتَ التابعة لها عن مُطالبة إيران بالتدخُّل. كانت رقصةُ «الإسناد والمُشاغلة» التى ابتدعها حسن نصر الله وسيلةَ المحور لإبقاء الخيوط مَوصولةً مع الفصائل، وقَطْعِ اتِّصالها المُباشر برأس الأُخطبوط فى الوقت نفسه. والمعنى؛ أنَّ طهران نفَضَتْ يدَها مُبكِّرًا من معركة غزَّة، ووقفت على شاطئ الدمِ تنتظرُ موعدَ اقتسام الغنيمة، أو تثمير تضحيات الغزِّيين لخدمة أجندة مشروعها الصفوىِّ الذى يُزايد على العربِ بقضاياهم وآلامهم. وإذ يستشعرُ نتنياهو أنَّ الملالى بعيدون كثيرًا عن شَرط المُواجهة؛ فإنه يُكثِّفُ الضربات ويُصعِّدُها للوصول بحالة الاستفزاز لآخرها، أو إعادة بناء مُعادلة الرَّدع تحت ظلِّ الصمت الاضطرارىِّ المُحتمَل.

على تعقُّد المُوزاييك الراهن فى المنطقة؛ فالمُفارقة أنَّ النظرَ للهُدنة لم يعُد مُرتبطًا بالأيديولوجيا والشعارات السياسية، ولا بطبيعة العداوات الظاهرة والمُضمَرة. محورُ المُمانعة، فى قلبه وأقوى أطرافه، يُريدها بقدر ما تسعى إليها دولُ الاعتدال، والولايات المتحدة، التى ذبحت ضميرَها تحت حذاء زعيم الليكود وائتلافه المُتطرِّف، تُريدُها أيضًا، ويتمنَّاها الغزِّيون بنكبتهم الفادحة والصهاينةُ بنازيَّتهم الحارقة، والرفضُ واقعٌ حَصرًا من جانبى نتنياهو والسنوار؛ إذ الأوَّلُ يتطلَّعُ إلى ما يُعظِّمُ أثرَ وحشيَّته فى عيون داعميه، والثانى يرفضُ كلَّ ما يُمكن أن يسلُبَه رصيدَ الدم والتضحيات. النزاعُ على الشروطِ حجَّةٌ عابرة؛ لا سيَّما مع العِلم بأنَّ الحروبَ لا تعودُ لسابق زخمها بعد التوقُّف، وأنَّ ستَّةَ أسابيعٍ من الصمت يُمكن أن تُحدِثَ انقلاباتٍ عميقةً فى الجانبين، وتُغيِّرَ كثيرًا من تفاصيل المشهد وتوازُناتِه القائمة. و«حماس» تشكُّ فى اهتزاز مكانة الحكومة فتطلُب مُهلةً أطولَ لوَضعِها أمامَ حركيَّة شارعها الغاضب، والاحتلالُ لا يثقُ فى انحلال قبضة الحركة فيتمسَّك بالوَقف المُؤقَّت لا الدائم.. أمَّا الضحايا الحقيقيون فلا اعتبارَ لهم لدى الطرفين؛ إلَّا بمقدار ما يُمثِّلونه من خزَّانٍ لمظلوميَّة الفصائل، وشاخصِ تصويبٍ يُؤكِّدُ فيه القاتلُ مهارتَه، ويُحقِّقُ مُرادَه فى الإرعاب و«كَىِّ الوعى» الفلسطينى.

وُصِفَتْ الجولةُ الحالية بأنها الفرصةُ الأخيرة؛ لا لشىءٍ إلَّا أنَّ محورَ الارتكاز فيها قد لا يعودُ مُتاحًا للَعِب الدور نفسِه فى الأسابيع المُقبلة. المنطقُ أنَّه كُلّما بَقِيَت الحربُ قائمةً، وطرفاها عاجزين عن الحَسم الخَشِن؛ تظلُّ فُرَصُ التهدئة مُتاحةً ومُتجدِّدة؛ لكنَّ الغطرسةَ الصهيونيَّةَ محمولةٌ على جناح الانحياز الأمريكى، وبإمكان واشنطن وحدها أنْ تُروِّضَ نتنياهو أو تردَعه، كما فى مقدورِها أن تُمرِّرَ الليونةَ إلى خنادق حماس من قناة طهران. وإذا كان ذئبُ تلِّ أبيب ينتظرُ مُلاقاة صديقه ترامب فى البيت الأبيض بعد ستَّة أشهر؛ فهذا آخرُ ما يتمنَّاه المُمانعون وأكبر ما ينزعجون منه. لكنَّ الصورةَ لا تخلو من احتمالٍ آخر، مع تصاعُد حُظوظ «هاريس» فى السباق، وما أبدته من مواقفَ صارمةٍ تجاه الحرب وسياسات اليمين الصهيونى، أكان برسالتها الصادمة وغير المُتَّفَق عليها بعد لقاء رئيس الحكومة فى رحلته الأمريكية، أم بتجاوز اليهودىِّ جوش شابيرو واختيار تيم والز نائبًا، مع انتمائه للتيار الليبرالى وما يُعرَفُ عنه من مواقف تقدُّميّة. وإذا كان هذا ممَّا يُطمئنُ طهران نسبيًّا ويُقلِقُ إسرائيل؛ فإنَّ تحَقُّقَه مرهونٌ بإنجاز اختراقٍ فى غزَّة يُضافُ لرصيد المُرشَّحة الديمقراطية. فكأنها متاهةٌ تتداخلُ مساراتُها: الحلُّ من أمريكا، وتحقيقُه خطرٌ على طرفٍ، وإخفاقُه نكبةٌ للآخر، وإذا لانَ أحدُهما يتشدَّد الآخرُ بالضرورة، وهكذا فالخيارُ بين أن تتوقَّفَ الحربُ اليومَ بشروطٍ ظالمة، أو تستمرَّ بتوحُّشِها وفواتيرها الباهظة؛ على وعدٍ بظُلمٍ أكبر فى المُستقبل غير البعيد.

البراجماتيَّةُ غائبةٌ تمامًا عن ذهن السنوار، وهو يعلمُ أنه سواء توقَّفَ اليومَ أو غدًا؛ فلن يكون شريكًا فى تفاهُمات ما بعد الحرب، وأقصى ما يُمكن إحرازُه أن تُعاد هيكلةُ الحركة تحت عنوانٍ آخر، أو تنخرطَ بعضُ عناصرها فى مُنظَّمة التحرير بصفَةٍ مُستقِلَّة. وهكذا لا معنى للتشدُّد إلَّا أنه يُقامرُ بحاضرٍ يتداعى طمعًا فى مُقبلٍ مُستحيل، أو ينتظرُ ضوءًا من عاصمة المحور: أخضر لو كان مَأمورًا منها بالتصلُّب، وأحمر حالَ أنه يتشدَّدُ بقرارٍ فردىٍّ. ومع عجز الولايات المُتَّحدة عن تخفيض سقف اليمين الصهيونىِّ، واستشعار بايدن لانسحاب سجَّادة الوقت من تحت قدميه؛ فرُبَّما يُجرِّبُ تطويعَ الاستعصاء بترهيبِ طهران أو ترغيبها، لينعكسَ قَبولُها للصفقة على مواقف قائد حماس الجديد، أو تقعَ القطيعةُ بينهما وينفصلَ عن الشيعيَّة المُسلَّحة، بينما لا يملكُ محورُ الأُصوليَّة الإخوانيَّة حاليًا، أو ما تبقَّى منه، أن يدعمَه فى الميدان ولا فى السياسة. لو اكتملَ هذا المسارُ فيُمكن أنْ تتجسَّد الهُدنة فى وقتٍ قريب؛ وإلَّا فالبديلُ أن تتَّصلَ الحربُ ولو بإيقاعٍ خافت، ويخسرَ الديمقراطيون والمُمانعون وفصائلُ غزَّة معًا، ولصالح الليكود وزعيمه وعصابته التوراتيَّة المُتطرِّفة.

تتأهَّبُ القاهرةُ للجولة الثانية من المفاوضات خلال الأسبوع الجارى. وليس معروفًا إلى الآن هل تظلُّ «حماس» على موقفِها السابق فى الدوحة، أم قرَّرت النزولَ عن الشجرة، والالتحاق بالطاولة ولو بتمثيلٍ محدود. عناصرُ الاتِّفاق واضحةٌ بشأن الصفقة ومراحلها وتدرُّج خُطواتها، والاختلاف فيما يخصُّ محورَى فيلادلفيا ونتساريم قابلٌ للتذويب بالمنطق والتفاهُمات الأمنيَّة، وكذلك الفيتو الإسرائيلى على بعض المُعتقَلين المطلوبين للتبادُل، ورغبة الاحتلال فى إبعادهم عن الضفَّة وغزَّة إلى الخارج. ورقةُ الأَسْرى لم تكُن فعَّالةً كما يتصوَّرُ الحماسيِّون، ولم تمنعْ الصهاينةَ من دَكِّ القطاع وذَبح عشرات الآلاف، فضلاً على استخلاص بعضهم أحياءً بالدمِ كما حدث فى النصيرات، أو أمواتًا بالإعلان عن استعادة ستَّةِ جثامين أمس. كان على «السنوار» التقاطُ المُفارقة منذ اللحظة الأُولى؛ فالرجلُ الذى أدارَ «صفقةَ شاليط» ونال حُرّيتَه بمُوجبها، حقَّق بجُندىٍّ واحدٍ قبل اثنتى عشرة سنة، ما لم يُحقِّقْه اليومَ بمائتين وخمسين، يعودُ الأمرُ لأثر الصفعة القاسية فى الطوفان، وجنون نتنياهو فى شيخوخته، ومَنطقِ أنَّ الجرعةَ الزائدة من الدواء قد تقتلُ بدل التشافى، وإزاءَ استفحال الأزمة وتعقُّد الخيارات، فإنَّ شراءَ سِتَّة أسابيع من الهدوء بنحو ثلاثين أسيرًا أو يزيد قليلاً؛ ربما يكونُ أثمنَ ما يُمكن أو يتوجَّب أن يعتذرَ به رجلُ الأنفاق القوىُّ، لضُعفاء سَطح الأرض المنكوبين.

جدَّد الرئيسُ السيسى مع «بلينكن» لُغةَ مصر فى البيان الثلاثى المُشترك قبل أسبوعين، وفى الشهور الطويلة منذ اندلاع الحرب، بأنه حانَ الوقتُ لوَقفِ إطلاق النار والاحتكام لصوت العقل، وأكَّد الوزيرُ التزامَ بلاده بالتهدئة. عادت واشنطن مُتأخِّرةً كثيرًا؛ وهذا ممَّا عَقَّد الأحوال وصعَّبَ المهام التى كان يسهُل إنجازُها سابقًا، بفاعليَّةٍ أكبر وتكاليف أقل. ربَّما تحرَّر «بايدن» من أعباء الشعبية والانتخابات وابتزاز جماعات الضغط، لكنه صار «بطَّةً عرجاءَ» قبل الموعد الطبيعى المُعتاد فى نوفمبر، وربما يملكُ الآنَ نفوذًا على مُحور الممانعة الذى بدا أقربَ لنمرٍ من ورق، بأكثر ممَّا يستطيعُ مع نتنياهو. على الشيعيَّة المُسلَّحة، والفصائلِ الغزِّية قبلها، أن يُحسِنوا قراءةَ شُروط اللحظة وتوازناتها، وألَّا يُمرِّروا أجندةَ الغريم المخبول لتفخيخ الإقليم، أو اللعب فى السباق الأمريكى واستدعاء مُرشَّحه المُفضَّل، وإن حدث هذا فليَكُن على الأقلِّ خارجَ سياق التصعيد وخَلط الأوراق، ومُغامرة الذهاب إلى مُواجهةٍ شاملة. عُقدةُ «حماس» أنها لا تُريدُ أن تخسرَ؛ ولو لصالح فلسطين وأهلها، وعُقدةُ نتنياهو أنه يسعى لإزاحة الحماسيِّين دون تصعيد السُّلطة. وبينما يصعُب دَحرُه فى الميدان؛ يتيسَّرُ إحباطُ نواياه بتسويةٍ تُقدِّم السياسىَّ على المُقاتِل؛ استجابةً للظروف وأثقالها. وإذا كان خروجُ الحركة من المشهد مقطوعًا به فى كلِّ الأحوال، فليَكُن مُعجَّلاً لا بعد كومةٍ جديدة من الجُثَث، وللقضيَّة لا لخدمة أغراض عَدوِّها النازىِّ الدنىء.. اختيارٌ قاسٍ؛ لكنه فاصلٌ فيما أحسبُ بين الاستقامةِ والانحراف، وبين الشخصانيَّة وإخلاص النوايا لوجه الوطن والمدنيِّين الأبرياء.







مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة