تعد مذكرات بديعة مصابني، التي كتبتها نازك باسيلا، واحدة من أشهر المذكرات الفنية والتاريخية، وهي حافلة بالعديد من التواريخ والرصد لأحداث مهم في الحياة العربية الاجتماعية والفنية والسياسية في بدايات القرن العشرين.
وخلال قراءتي لهذه المذكرات استوقفتني أكثر من لقطة منها ما يتعلق بفلسطين وما جرى فيها من بعد الحرب العالمية الأولى، وكيف كان شعبها يقوم بالمظاهرات بحثا عن حقه الذي بدأت عصابات اليهود تحاول الاستيلاء عليها.
تقول بديعة مصابني:
بعد النجاح الذي أصبته في حلب: لم يعد يروق لي العمل في الملاهي التي يكثر فيها صياح لاعبي الطاولة والدومينو . وللأسف لم يكن ملهى من ملاهي بيروت يخلو من ضجة هؤلاء اللاعبين، وهكذا رفضت جميع العروض التي قدمها لي أصحاب الملاهي، لأنني لم أعد أستطيب الغناء إلا في جو من الهدوء والسكينة أرتاح فيه إلى تجاوب الجمهور .
يقيت معتكفة في منزلي، إلى أن حضر إلى بيروت عزت الجهلي والممثل الكبير الأستاذ حسين رياض، الذي لم يكن كبيراً في تلك الأيام، والذي كان يحاول تمثيل أدوار نجيب الريحاني، ويقلد صوته وحركاته كما كان حافظاً جميع رواياته، التقيتهما، وعرض علي حسين رياض أن نكون فرقة تمثيلية ونذهب إلى فلسطين، رحبت بفكرته بحماس، لأنني كنت قد بدأت افتقد التمثيل، ولم تكن في بيروت تسنح لي فرصة إشباع رغبتي إذ كانت كما هي اليوم خالية من المسارح.
بدأت في تكوين الفرقة يستخفني الفرح، واستدعيت الممثلين الذين كان أمين عطا الله قد تركهم مشردين دون أن يكلف نفسه عناء إعادتهم إلى بلداتهم حسب شروط عقدهم معه. كما جمعنا فرقة من الحيوانات الأليفة كالكلاب والسعادين،
واتجهنا الى فلسطين.
كانت حيفا أول المطاف، وكنت ما زلت أجهل عمل المسرح وإدارته ولا أعرف شيئاً عن طريقة إعداده، ولا اعلم أن الدعاية هي أولى دعائم النجاح - نزلنا حيفا دون أن نكون قد حجزة فندقاً نأوي إليه ولا مسرحاً نعمل فيه. وما إن بلغنا المدينة حتى تفرق شملنا، وصار كل منا يبحث على حدة عن مكان يبيت فيه ليله كما كان كل منا يتنصل من المسؤولية، ويلقيها على عاتق غيره، كل هذا وأنا محتارة، لا أدري ما العمل لحل هذه الأزمة، التي لم أكن أتوقعها.
أمضينا ليلتنا الأولى كيفما اتفق، وفي الصباح الباكر شرعت في لم شمل الممثلين المبعثرين في كل أنحاء حيفا، كما شرعت في البحث عن مسرح نعمل فيه، ولسوء الحظ كان أصحاب المقاهي متعاقدين مع فرق راقصة، ولم نوفق بمسرح واحد يصلح لتمثيلياتنا - بعدما يئسنا من بحثنا العقيم، جاء من يقول لنا إن في الحي اليهودي مسرحاً قد يكون صالحاً للعمل، ولكن إذا عملتم هناك قاطعكم العرب لأنكم في حي يهودي وقاطعكم اليهود لأنكم عرب، فالحالة متوترة جداً بين الطرفين ولا تنتهي مظاهرة إلا تقوم أخرى، هذا ونحن ما زلنا كالبدو الرحل. نتجول في شوارع حيفا برفقة كلاب وسعادين الفرقة، تجولنا إلى أن بلغنا الساحة فوقع نظر صاحب مقهى الزهر علينا، وأسرع يدعونا إلى تناول القهوة في ضيافته، لبينا دعوته بسرور وفيما نحن في حديث طويل عن المسارح والمقاهي والفرق، اذا بطلقات نارية تدوي في الفضاء فجأة : واذا بالتظاهرات تتعاقب بسرعة، دب في نفوسنا الذعر لمنظر المتظاهرين الهادرين كالرعد ، ولم يعد يهمنا العمل بقدر ما أصبح بهمنا أن ننجو بأنفسنا - فاقترح علينا صاحب مقهى الزهر أن نذهب إلى يافا حيث كان يوجد مقهى البنور الواقع في الحي العربي.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة