كان الوقت يوم الأربعاء 24 يونيو، مثل هذا اليوم، 1517، حين نادى السلطان العثمانى سليم الأول فى عسكره بأن كل من كان متزوجا بامرأة من نسل أهل مصر يطلقها، وإلا يشنق من غير معاودة، فمنهم من طلق زوجته ومنهم من أبقاها فى عصمته، حسبما يذكر الدكتورعبدالعزيز محمد الشناوى فى كتابه «الدولة العثمانية.. دولة إسلامية مفترى عليها»، نقلا عن «ابن إياس» الذى كان لا يزال معاصرا لهذه الأحداث.
يستدل «الشناوى» بهذه الواقعة بالإضافة إلى وقائع أخرى على ما يصفه بعدم «عثمنة الشعوب التى دانت لحكم الدولة العثمانية سواء أوروبية أو إسلامية، أو ربطها برباط الحضارة العثمانية»، ويذكر سببين لذلك، الأول: سطحية الحكم العثمانى بحيث مارست الدولة نفوذها فى نطاق ضيق للغاية، والثانى: الاستعلاء الذى كان من السمات البارزة فى الخلق العثمانى، واشترك فى هذا الاستعلاء السلاطين والأتراك العثمانيون على السواء.
يوضح «الشناوى» أن استعلاء السلاطين كان نزعة أصيلة فى نفوسهم، اشترك معهم فيها الأتراك العثمانيون كشعب نظر إلى الحرب على أنها مهمته الأولى، ونظر إلى أصوله الجنسية الأولى على أنها أنقى وأرقى من الشعوب الأخرى، فكان ضنينا بالزواج من غير التركيات العثمانيات، ونظر إلى الشعوب الأوروبية نظرة ازدراء، وإلى الشعوب الإسلامية نظرة استعلاء.
يعطى «الشناوى» أمثلة على مظاهر هذا الاستعلاء، قائلا: «السلطان سليم الأول فى أثناء إقامته بالقاهرة التى امتدت زهاء ثمانية أشهر بعد دخوله العاصمة فى الثالث من محرم 923 هجرى حتى مغادرته لها فى الثالث والعشرين من شعبان سنة 923 «26 يناير إلى 10 سبتمبر 1517» فى طريقه إلى إستانبول ترامت إلى مسامعه أن الأتراك العثمانيين أقبلوا على الزواج من أرامل المماليك، الذين لقوا حتفهم فى المعارك الرهيبة التى دارت بين العثمانيين والقوات المملوكية، فأصدر أمرا إلى العثمانيين بالكف عن الزواج منهن، وأصدر أمرا عاما إلى جميع قضاة مصر، ولم يكن النظام العثمانى نفذ بعد فى مرفق القضاء، بأن يمتنعوا عن عقد مثل هذه الزيجات».
يذكر «الشناوى» أن هذا الأمر قوبل من الأتراك العثمانيين بانصرافهم إلى الزواج من المصريات، فثارت ثائرة «سليم»، وأصدر أمرا توعد فيه بشنق كل عثمانى تسول له نفسه الزواج من مصرية، وينقل «الشناوى» قول ابن إياس: «فى يوم الأربعاء الرابع من شهر جماد الآخر سنة 932 هجرية 24 يونيو 1517، «نادى السلطان فى عسكره أن كل من كان متزوجا بامرأة من نسل أهل مصر يطلقها، وإلا يشنق من غير معاودة، فمنهم من طلق زوجته، ومنهم من أبقاها فى عصمته»، ويؤكد «الشناوى» أنه منذ ذلك الوقت غدا عدم زواج الأتراك العثمانيين بالمصريات وغيرهن من سيدات الشعوب الإسلامية التى خضعت لهم، تقليدا حرص عليه العثمانيون وارتاحوا له بمضى الزمن إرضاء للنزعة الاستعلائية التى كانت تعمر فى نفوسهم».
يشير «الشناوى» إلى عدة مظاهر للاستعلاء العثمانى ونتائجه، قائلا: «على غرار ما حدث فى الولايات العثمانية فى أوروبا، انتهجت الدولة العثمانية نفس السياسة فى الولايات الإسلامية من حيث عدم الاندماج وعدم الانصهار بين الأتراك العثمانيين وأهالى الولايات الإسلامية، ولم يحدث تتريك جنسى لهذه الشعوب الإسلامية، وانكمشت اللغة التركية على نفسها فى مصر وفى غيرها من الولايات الإسلامية، فلم تكن تستخدم إلا فى دواوين الحكومة، وكانت قليلة العدد، ولا يتحدث بها إلا الأتراك العثمانيون فيما بينهم، وكانوا قلة بالنسبة لتعداد السكان، وكانت السلطات العثمانية تعمد إلى ترجمة الفرمانات المهمة والأوامر الحكومية إلى اللغة العربية، وتتلى فى المساجد الكبرى وفى الأسواق وغيرها من أماكن التجمعات الجماهيرية، أو يطوف بها المشاعلية كرجال الإعلام».
يضيف «الشناوى»: «قنعت الدولة بالجزية السنوية ترسل إليها من كل ولاية ما عدا إقليم الحجاز، ويذكر اسم السلطان مقرونا بالدعاء له على منابر المساجد فى خطب الجمعة والأعياد، وبالعملة تضرب باسمه، وبوالى عثمانى نائبا عن السلطان فى كل ولاية وهو يحمل رتبة الباشوية أو البكوية، وبقوة عسكرية عثمانية ترابط فى البلاد، ويطلق عليها أهل الولاية اسم «الحامية العثمانية»، وكان حصاد هذه السياسة أن احتفظت الشعوب الإسلامية وهى فى ظل الحكم العثمانى بلغتها وثقافتها وعاداتها وتقاليدها وغيرها من عناصر حضارتها، وكانت من أهم المقومات التى استندت عليها حركة القومية العربية فى آواخر القرن التاسع عشر».
يلفت «الشناوى» النظر إلى ملاحظة ذات مغزى عميق، يذكرها نابليون بونابرت فى مذكراته التى أملاها فى منفاه بجزيرة سانت هيلانة وهى قوله: «إنه لما جاء إلى مصر قائدا عاما للحملة الفرنسية سنة 1798، وجد أن المصريين لا يتكلمون اللغة التركية، وأنهم يجهلونها، وأن هذه اللغة كانت غريبة عليهم كما كانت اللغة الفرنسية غريبة عليهم سواء بسواء».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة