حين ولد الشاعر أمل دنقل بقرية القلعة بمحافظة قنا فى 23 يونيو، مثل هذا اليوم، 1940 كان من حظ الشعر العربى أن يصبح هذا المولود أحد سادته الكبار، وأحد الاستثنائيين فى تاريخ الإبداع العربى ككل، والذى «أعطى نموذجا متفردا للشاعر الذى يكون شرف الشعر عنده فوق كل شرف، لأنه من شرف الإنسان ومن شرف الوطن»، حسب قول الشاعر حلمى سالم فى مقاله «الحداد يليق بالشعراء»، بمجلة «الثقافة الجديدة، القاهرة، يونيو 1983».
متى اكتشف أمل دنقل الشعر؟ ومتى قرر أن يكون شاعرا؟ ومن هو، وكيف نشأ؟ أسئلة تفك ألغاز مراحل تكوينه الأولى، ويجيب هو عليها فى حوار طويل أجراه معه الناقد والكاتب اللبنانى وليد شميط بمجلة «الأسبوع العربى» لندن، 25 فبراير 1974، قائلا: «نشأت نشأة عادية كآلاف الشباب فى مصر، وولدت فى قرية فى أقصى الصعيد بالقرب من الأقصر، كانت عاصمة أيام الفراعنة، اليوم تشتهر بآثارها، ويتعايش فيها التفكير الفرعونى الموروث منذ آلاف السنين إلى جانب القيم القبلية التى حملتها القبائل العربية التى حطت هناك».
يضيف: «كان والدى رجل دين وكان متزمتا، ومن هنا اكتسبت نشأتى الأولى بعض الصلابة وربما بعض الخشونة والجفاف، لم يكن يسمح لى بأى تهاون فى أداء واجباتى أو فى المطالبة بحقوقى فى الوقت نفسه، كان والدى رجلا مثاليا فى حياته العامة والخاصة، عندما مات وكنت فى العاشرة ظلت حياتى تسير على النمط نفسه الذى صوره قبل وفاته».
فى بداياته أحب أن يكون قاصا أو روائيا، لكن نداهة الشعر خطفته، ويتذكر كيف حدث ذلك، قائلا: «وجدت فى مكتبة والدى كتبا كثيرة تتعلق بالشعر والقصة والأدب، وكان والدى يقرض الشعر فى كثير من الأحيان، فى بداية حياتى كنت أحب أن أكون قاصا أو روائيا، وبطبيعة نشأتى المنزلية كنت متفوقا فى اللغة، وفى السادسة عشرة من عمرى واجهت للمرة الأولى تجربة عاطفية مما يعبر فى حياة الشباب فى تلك السن، لم يكن من الممكن التعبير بشكل روائى أو قصصى، لم تكن هناك قصة مكتملة، وإنما مجرد مشاعر تنتابنى عندما أرى فتاتى الأولى، لذك كان الشعر هو أقرب الوسائل للتعبير عن هذه الانطباعات».
كتب أمل أول الشعر لكن أستاذه لم يعترف به، فارتفعت درجة التحدى والكرامة عنده، يتذكر: «أول مرة عرضت فيها أشعارى الأولى على أستاذى وكان شاعرا بالمناسبة، أجابنى ما معناه أن من الخير لى أن أترك الشعر لأننى لن أكون شاعرا أبدا، أحسست بالتحدى وبأن كرامتى أهينت، سألت بعض أصدقائى من المهتمين باللغة والشعر، فأخبرونى بأن العرب يقولون إن من حفظ ألف بيت صار شاعرا، قررت أن أحفظ ألف بيت من الشعر، وبالفعل أخذت أستعير الدواوين الكثيرة، ولأنه كان من الصعب الاحتفاظ بها فقد استنسختها، ولا تزال دواوين المتبنى والبحترى وأبى نواس وامرئ القيس وأشعار شوقى وحافظ إبراهيم ومطران وعلى محمود طه وإبراهيم ناجى ومحمود حسن إسماعيل منسوخة بخط يدى، وفى العام التالى تقدمت بإحدى القصائد الجديدة للأستاذ نفسه، فأبدى دهشته الشديدة لتقدمى، وأحسست أننى حققت انتصارا ما، لكن شعرى بقى حتى ذلك الحين منغلقا فى دائرة همومى الذاتية».
يتذكر أمل أول ارتباطه بحياة الناس، وهو الوقت الذى ودع فيه انغلاق شعره على دائرة همومه الذاتية، يذكر: «كنت فى تلك السن المبكر متدينا جدا، وأؤدى الصلاة فى أوقاتها المنتظمة، كما كنت منتسبا إلى إحدى الفرق الصوفية، ومن خلال معاشرتى للمتصوفين والمتدينين بدأت اكتشف التناقضات والفوارق الشديدة بين ما يقولونه فى المساجد والحلقات الدينية وما فى حياة الناس العاديين، فبدأت بكتابة قصائد أقف فيها ضد البدع الدينية، ومن هنا نشأ ارتباطى الأول بحياة الناس».
يضيف أمل: «فى سن السابعة عشرة رحلت إلى القاهرة لألتحق بالجامعة، وترددت على بعض الندوات الأدبية، ولكن لم أكن مسموع الصوت، وأحسست أننى يجب أن أعيش حياة القاهرة كاملة، فانصرفت عن الشعر خلال سنتين، عدت بعدها متأثرا بمحمود حسن إسماعيل ومنتسبا إلى مدرسة الشعر الجديد، كنت معجبا بأشعار عبدالرحمن الشرقاوى وصلاح عبدالصبور، وفى فترة متأخرة بأشعار أحمد عبدالمعطى حجازى، عندما التقيت به كان شعرى يوميا، أى كانت تغلب عليه الصبغة النثرية، ولم تكن رؤيتى السياسية مكتملة».
يكشف: «عندما عدت إلى كتابة الشعر كان أغلب المثقفين اليساريين المصريين فى المعتقلات، ومن هنا اعتبرت قصائدى فى ذلك الوقت صرخة جريئة فى المنتديات والمحافل الأدبية، فالتف حولى بعض المثقفين وشجعونى ونشرت أولى قصائدى فى «الأهرام» عام 1961، وكانت تلك نقلة نوعية بالغة الأهمية بالسنبة إلىّ، بعد ذلك نشرت عدة قصائد فى الأهرام وفى مجلة «المجلة» التى كانت مقصورة على بعض الأسماء اللامعة».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة