إسبانيا بين إرهاب الأمس وإرهاب اليوم..

تقرير جديد لمرصد الأزهر بعنوان تطور أساليب التطرف وأدواته إسبانيا نموذجا

الإثنين، 27 مايو 2024 12:02 م
تقرير جديد لمرصد الأزهر بعنوان تطور أساليب التطرف وأدواته إسبانيا نموذجا مرصد الازهر
كتب لؤى على

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

أصدرت وحدة اللغة الإسبانية بمرصد الأزهر لمكافحة التطرف تقريراً مطولاً سلطت فيه الضوء على هجمات مدريد التى وقعت فى 11 من مارس 2004 م، وأشار التقرير إلى أنها من أبرز الأحداث الإرهابية التى شهدتها إسبانيا فى تاريخها، وبعد مرور عقدين من الزمن على تلك الهجمات، يمكننا تأمل التطور الذى طرأ على مسار التطرف فى إسبانيا وفهم الفوارق بين إرهاب الأمس وإرهاب اليوم؛ فبعد هجمات مدريد، شهد العالم تطورًا كبيرًا فى مجال مكافحة الإرهاب على مستوى سبل المكافحة والتعاون المحلى والدولي.

وقد تأثرت إسبانيا بتلك التغييرات، وشهدت تعزيزًا للتعاون الأمنى الدولى وتبادل المعلومات لمكافحة التطرف، كما نهضت وسائل التواصل الاجتماعى بدور مهم فى تطور أساليب التطرف فى إسبانيا؛ فقد سهلت هذه الوسائل انتشار الأفكار المتطرفة وتجنيد الأفراد، وأصبحت وسيلة للتواصل والتنسيق بين التنظيمات المتطرفة.

وعلى الجانب الآخر، استخدمت الوسائل نفسها فى مكافحة الأفكار المضللة ودحضها وتفنيدها، ولا يمكن إغفال تأثير الهجمات الإرهابية العالمية التى تلت هجمات مدريد، خصوصًا فى العواصم الأوروبية.

 

سمات الشخصية المتطرفة.. بين إرهاب الأمس وإرهاب اليوم فى إسبانيا

كان المتطرفون الذين ينشطون فى أوروبا منذ عقدين من الزمن فتيانًا أوروبيين تتراوح أعمارهم بين 17 و35 ‏عامًا، من أبناء الجيل الثانى أو الثالث من المهاجرين، تنحدر أصول عائلاتهم من شمال إفريقيا أو الشرق الأوسط، لكنهم لم يسافروا ‏قط إلى تلك البلدان، واضطروا إلى تعلم لغة آبائهم، ويشعرون بأنهم لا ينتمون إلى أية ثقافة؛ فهم غرباء عن ‏ثقافة آبائهم كما أنهم غرباء عن ثقافة أقرانهم فى المجتمع الغربي.

وقد تظهر سمات شخصية معينة للمتطرف، مثل عدم النضج والنرجسية والأنانية والتمركز حول الذات، والقدرة الوجدانية والعدوانية، ما يؤدى إلى تعزيز القدرة الإجرامية لدى هؤلاء الشباب وتجردهم من القيم الإنسانية. وقد أشارت صحيفة "20 مينوتوس" الإسبانية، فى 7 من مارس 2024 م، إلى الصورة الجديدة للإرهابي، فغالبًا ‏ما تظهر صورة الرجل ذى اللحية السوداء الكثيفة، الذى لا يتحدث الإسبانية، على أنه مختل عقليًّا ‏وشرير مدعوم بشبكة دقيقة صاغتها نخب تنظيم إرهابى كبير. ‏أما الآن فالمتطرف يمكن أن يكون شابًا عشرينيًّا بلا لحية، يتحدث باللكنة الإسبانية ويحمل الجنسية الأوروبية، ‏ويستمع إلى الأغانى نفسها، ويرتدى أحدث الأحذية الرياضية ويدمن شبكات التواصل ‏الاجتماعي. وكأى مراهق، يخرج لتناول المشروبات ويحضر الحفلات. فما الذى يدفع ‏طفلًا يبدو عاديًا إلى أن يصبح إرهابيًّا؟ ‏ لقد رحل الإرهابيون -الذين تم تجنيدهم وتلقينهم عقائديًّا وتدريبهم عسكريًّا فى الصالات ونوادى الملاكمة- إلى الغرب بهدف تنفيذ هجمات. أما الآن فهم إنغماسيون يعيشون بالفعل على الأراضى الأوروبية، وليست لديهم أية معرفة محددة، ومهمتهم إحداث أكبر قدر ممكن من الضرر.

ولتحقيق ذلك، فإنهم مستعدون للفرار من مسرح الجريمة بهدف وحيد، هو مواصلة القتل بالسكين. أن تنظيمى "القاعدة" و"داعش" هما وجهان لعملة واحدة. وُلد التنظيم الأول فى أواخر الثمانينيات على يد أسامة بن لادن، وظهر داعش فى عام 2014 م مع البغدادي. وكان هذا هو الفرع العراقى لتنظيم القاعدة. ونشأ تنظيم داعش عندما كان البغدادى مسجونًا فى سجن معسكر بوكا العراقي، وقد وصفه عدد من المحللين بأنه جامعة الإرهابيين؛ ففيه التقى بأولئك الذين أصبحوا فى ما بعد قادة التنظيم الجديد. وفجأة، ظهر الانقسام: كان لتنظيم القاعدة خط عملياتى أكثر تقليدية، بينما كانت تكتيكات البغدادى أكثر قسوة ووحشية؛ فبلغت من القسوة أن تنظيمَ القاعدة اعتبر داعش انحرافًا طائفيًّا عن الإسلام، وهو ما شوه صورة التنظيم. وكما ورد فى بعض الكتابات، سعت القاعدة إلى "غزو القلوب والعقول" من أجل كسب المتعاطفين. وقد حوَّل تنظيم داعش هذه الرومانسية إلى سفك للدماء دون تمييز، حتى دماء المسلمين أنفسهم. وأصبح منفذو الهجمات يستخدمون أدوات بدائية، ومعيبة غالبًا، كما كان الحال -مثلاً- مع إرهابيى برشلونة وكامبريلس، الذين فجروا الجهاز الذى كانوا يعتزمون استخدامه بعد أيام عن طريق الخطأ، وهو ما كان ينذر بوقوع الهجمات. وعليه أصبح الإرهاب الآن عابرًا للحدود ورقميًّا وغير منظم. والجناة شباب لا جذور معروفة لهم داخل التنظيمات، بل جاء انضمامهم من خلال وسائل وأدوات إعلامية ودعائية للتنظيمات. وهذا هو سبب أهمية الروايات المضادة ومحاولة السيطرة على المحتوى الإلكتروني.

عشرون عامًا على هجمات مدريد‏: كيف نُعرِّف ملف التطرف فى إسبانيا؟

‏بعد مرور 20 عامًا على هجمات مدريد (مارس 2004 م)، تطورت ملامح المتطرفين الذين اعتقلوا أو قتلوا فى إسبانيا بتهمة ما يسمى بـ"التطرف الجهادي" فى السنوات العشرين التى تلت هجمات11 من مارس فى مدريد، إذ أشار معهد "إلكانو" الملكى الإسبانى فى دراسة له إلى أن معظم المتطرفين المعتقلين هم من الرجال الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و35 عامًا. وتشكل النساء الآن ما يقرب من 12٪ من المتطرفين الذين تبلغ نسبة المتحولين إلى الإسلام حديثًا منهم 10٪. وأشارت الدراسة إلى أن نصفهم من المغاربة. لكن المتطرفين من السكان الأصليين أو الإسبان فى ازدياد بسبب تزايد أعداد الجيل الثاني. وقد حللت هذه الدراسة بيانات تخص 195 متطرفًا أُدينوا فى الفترة ما بين عامى 2012 م و2023 م فى إسبانيا فضلًا عن العشرة الذين لقوا حتفهم فى العمليات – وهم الأعضاء الثمانية فى خلية ريبول التى ارتكبت الهجمات فى برشلونة وكامبريلس، ومرتكبى الهجمات فى كورنيلا (برشلونة) وتورى باتشيكو (مرسية). ومع ذلك، فى حين لم توجد حالة نسائية واحد بين عامي2001 م و2011 م، فإن النساء يمثلن الآن 11.7.٪ من المعتقلين أو القتلى.

وتوضح الدراسة أن هذا التغيير يمكن تفسيره "فى جانب كبير منه من خلال حملة محددة لتعبئتهن، طورها تنظيم داعش الإرهابى بوجه خاص فى أثناء استمرار خلافته المزعومة فى سوريا والعراق. تناول التحليل 205 حالة من بينهم 24 امرأة جميعهن أصبحن متطرفات -باستثناء واحدة- فى خلال دورة التعبئة إبان الحرب فى سوريا وظهور تنظيم داعش الإرهابي، وذلك بين عامى 2012 م و2015 م بالأساس. ولم تمارس أى منهن مهام عملياتية ولا تدربن على استخدام الأسلحة أو المتفجرات على غرار 69.6٪ من حالات الرجال. ومن هذا المنطلق، كان عملهن لأغراض الدعوة وتمجيد التنظيم (62.5٪) أو لاستمالة النساء وتجنيدهن (50٪)، فيما قامت نسبة 12.5٪ منهن بمهام لوجستية و10.7٪ منهن بمهام تمويلية. وعلاوة على ذلك، فإن ثمانى من أصل عشر منهن كن على استعداد للانتقال إلى مقر "الخلافة المزعومة"، وأبدى 66.7٪ منهن الاستعداد للمساهمة بفعالية كزوجات وأمهات يضطلعن بمسئولية تلقين الفكر المتطرف للنشء. وتشير التقارير إلى أن ٦ من أصل 10 من هؤلاء المتطرفين مغاربة المولد (55.9٪) وأن 5 من أصل 10 يحملون الجنسية المغربية (48 ٪)، ويكمن الفرق فى أن بعضهم تجنسوا بالجنسية الإسبانية. وتوضح هذه البيانات مدى انتشار الفكر المتطرف عالميًا، كما فى إسبانيا، وهو أمر يفسره القرب الجغرافي. وعلاوة على ذلك، يشار إلى أن المغرب بلد تأثر تأثرًا ملحوظًا بهذا الفكر منذ نشأته. وثمة تغيير آخر، فبينما كان الجيل الأول من المتطرفين فى العقد السابق يشكل الأغلبية (78.2٪) مقارنة بالجيل الثانى من المهاجرين (19.2٪)، أصبح الجيل الثانى الآن أكثر عددًا (52.1٪) مقارنة بالجيل الأول من المهاجرين (35.9٪)، بل توجد حالات من الجيل الثالث من المهاجرين بنسبة (7.1٪).

ومن ناحية أخرى، شهد العقد الماضى تغييرات مقارنة بالعقد السابق؛ فعلى الرغم من أن الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و25 عامًا هم الأغلبية (سبعة من كل عشرة)، توجد الآن حالات من القصر (1٪؜ فى سن 14 سنة أو أقل و4.9٪؜ فى سن ما بين 15 و17 سنة). كما أن عددًا من الشباب الذين تعرضوا للتطرف نشأوا فى أسر مفككة ومروا بفترات صعبة من المراهقة، كما مروا فى الغالب بتجارب مؤلمة ومشكلات سلوكية أو نفسية. ومن حيث الأقاليم، ما يزال إقليم قطلونية يسجل أعلى نسبة من حالات التطرف (35.8٪)، يليه مدريد بنسبة (15.3٪)، ثم سبتة (10٪)، ومليلية (8.4٪)، ثم أندلوثيا (7.4٪)، ثم بلنسية (6.3٪)، ثم إقليم الباسك (5.3٪).

على الرغم من تورطه فى هجمات مدريد، تنظيم "القاعدة" خارج مخيلة المتطرفين فى إسبانيا ‏

عند الحديث عن مصدر إلهام ‏المتطرفين فى إسبانيا والولاءات للتنظيمات المتطرفة، بعد أن كان تنظيم القاعدة هو مصدر الإلهام الأساسى للمتطرفين ‏فى إسبانيا وفى شريحة كبيرة من المتطرفين حول العالم، أصبح تنظيم داعش الإرهابى منذ ظهوره وسرعة انتشاره ‏-وتحديدًا فى 2014 مصدرًا بديلاً لإلهام المتطرفين، بل ربما أصبح المصدر الوحيد لذلك. وقد توصل إلى هذه النتيجة تحليل أجراه معهد "إلكانو" بعد أن عقد مقارنة بين حالات الاعتقالات بسبب التطرف الجهادى ‏فى إسبانيا بين عامى 2012 م و2019 م وبين عامى 2020 م حتى عام 2023 م. وقد تبين أن تنظيم "داعش" ‏الإرهابى ظهر فى البداية بوصفه فرعًا لتنظيم القاعدة، وفى عام 2014 م بدأ فى التوغل السريع فى الأراضى فى العراق ‏وسوريا، ما أدى إلى حدوث تغيير فى المشهد العالمى للتنظيمات المتطرفة. وحسبما شرحت "كارولا جارثيا كالبو"، الخبيرة فى معهد "إلكانو" وأحد المشاركين فى إعداد تلك الدراسة، تحرك بعض ‏الأفراد فى إسبانيا صوب جبهة النصرة التابعة لتنظيم القاعدة فى سوريا، ولكن عندما ظهر تنظيم ‏داعش وأعلن الخلافة ودعا إلى التحرك لصالحه، انتقلوا إلى التنظيم الوليد. وابتداءً من عام 2020 م، أصبح داعش هو "الفريق المسيطر" على المتطرفين ومصدر توجيههم، واختفى تنظيم ‏القاعدة تمامًا.

وفى الفترة بين عامى 2012 م و2019 م، كان تنظيم القاعدة يشكل مرجعية لنسبة 10.3٪ من ‏المتطرفين. ولكن ما بين عامى 202 م حتى عام 2023 م، ارتفعت نسبة المتطرفين الذين يلتزمون بنهج تنظيم داعش ‏الإرهابى إلى 87.6 ٪، فى حين تراجعت نسبة المتطرفين المنتمين إلى تنظيم القاعدة إلى 0.9٪ فقط.‏ ويعود هذا التحول فى الانتماء إلى عدة عوامل، منها النجاحات التى حققها داعش فى العراق وسوريا وجذب الانتباه ‏العالمى إليه، إضافة إلى استخدامه وسائل التواصل الاجتماعى والتقنيات الحديثة عبر الإنترنت والترويج لأفكاره ‏المتطرفة بطرق مبتكرة. ومع كل ما تقدم، ينبغى أن نؤكد أن تنظيم القاعدة ما يزال قائمًا يحاول الحفاظ على ‏تأثيره وشن هجمات جديدة، لكنه لم يعد يلقى الاهتمام والانتشار اللذين كانا فى السابق. كما أن ‏التنظيمات الإرهابية قابلة للتطور والتغيير؛ لذا فمن الممكن أن يظهر تنظيم جديد فى المستقبل يحظى بتأييد ومتابعة من ‏المتطرفين، ما يوجب على الأجهزة الأمنية توحيد الجهود لتستمر فى مكافحة الإرهاب ومواجهة ‏الأيديولوجيات المتطرفة. ونتيجة لما عرضناه، توجد حقيقتان لابد من إدراكهما إدراكًا كاملاً والتعامل معهما بوضوح وحزم: أولهما أن سيطرة تنظيم إرهابى ما على ساحة الأحداث تأتى من نشاطه الفعلى على الأرض، لا من خلال الدعاية والظهور الإعلامى فقط.

أما الحقيقة الثانية فتكمن فى استخلاص داعش قواعد العمل الإرهابى المعاصر، وقدرته على التعامل مع التقنيات الحديثة وحشد المتعاطفين والأتباع، من خلال آلة إعلامية قوية نجحت فى إبهار قطاع عريض من الشباب، الذى مورست عليه مؤثرات عاطفية ونفسية ترتبط بمفاهيم المواطنة ودرجاتها وفق أصول الشخص ولونه وثقافته، ومؤثرات دينية مرتبطة بمفهوم الخلافة والحكم والولاء وغيره، فانساق وراء التنظيمات الإرهابية على غير هدى بحثًا عن مخرج من معاناته والتماسًا لشعور بالذات واعتدادًا بالنفس واستعادة للهوية، وهى معان افتقدها فى محيطه الاجتماعى الغربي. أن فكرة المكافحة ومناهضة العمل الإرهابى تكمن أساسًا فى معرفة دقيقة وعلمية بطبيعة العنصر الإرهابى وتكوينه النفسى والفكرى والعقدي، فضلًا عن أساليب التنظيمات ومناهجها فى اجتذاب العناصر واستقطابها؛ وهو الأمر الذى تنبنى عليه معالجة فكرية وعلمية صحيحة لمشكلة التطرف الفكرى والإرهاب المسلح على حد سواء. وبكلمات أخرى، فإن الجهود الأمنية، على أهميتها وضرورة إحكامها، لا تفى وحدها بغرض مواجهة خطر الإرهاب والتطرف، بل لابد من وضع المعالجة الفكرية فى اعتبار السلطات والأجهزة المختصة فى الدول كافة.










مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة