فى هذه المساحة نقدم سيرة النساء الأوليات اللاتى حملن مشاعل النور وسط الظلام، من فتحن أبوابا مغلقة لم يكن مسموحا لبنات جنسهن أن يطرقنها وخضن معارك مع الجهل والظلم ليمهدن لبنات حواء طرق العلم والعمل والنجاح والإبداع فى زمن كان تعليم الفتاة أمرا خارجا عن المألوف مخالفا للعادات والتقاليد، متعارضا مع النظرة السائدة للمرأة ودورها فى الحياة الذى كان مقتصرا على الزواج وخدمة الرجل وتربية الأبناء ورعاية شؤون المنزل، من شققن طرق العلم، واقتحمن مجالات العمل ورسمن مسارات جديدة لأجيال قادمة، هذه المساحة نكشف فيها مسيرة كفاح الأوليات فى كل المجالات.
فى بيت أرستقراطى فخم بمنطقة محرم بك بالإسكندرية يجلس إسماعيل باشا حافظ ممسكا بالعود، وحوله أبناؤه وبناته، يمسك كل منهم بآلة موسيقية بينما تجلس الأم أمام البيانو، يعزف الجميع معا وكأنهم أوركسترا يقوده الأب العاشق للموسيقى، فتتعالى الأصوات كل ليلة بأجمل الألحان، تجلس الطفلة بهيجة ذات الأربعة أعوام، تنتبه لما يفعله إخوتها وكيف يعزف كل منهم على آلته، وحين تجلس شقيقتها الكبرى لتعزف على البيانو، تتابعها وتقلدها بل تصحح لها إذا أخطأت، لاحظ الجميع نبوغ الطفلة وتعلقها بالموسيقى وتعلمها السريع للعزف، وحين التحقت بمدرسة الفرنسيسكان ثم بالميردى ديو، أتقنت اللغات والموسيقى التى درستها فى البيت والمدرسة، وبدأت تؤلف قطعا موسيقية وهى فى التاسعة من عمرها- كما ذكرت فى مذكراتها التى نشرتها بمجلة الكواكب فى يناير 1953 تحت عنوان «قصة حياتى»- فكان ذلك خطوة لما حققته من إنجاز كبير لتكون أول امرأة فى مصر والشرق الأوسط تكتب نوتة موسيقية، وتؤلف موسيقى تصويرية عالمية، فضلا عن كونها كاتبة سيناريو وحوار وإحدى رائدات الفن وأوائل المخرجات والمنتجات فى العالم العربى وأنشأت أول نقابة للموسيقيين، وأصبحت أول نقيبة وخاضت حروبا ومعارك وتحديات لتحقق ما لم يحققه غيرها، فيكون لها السبق فى الكثير من المجالات والإنجازات المحلية والعالمية.
«أنا بهيجة حافظ ابنة إسماعيل باشا حافظ، المولودة فى الإسكندرية سنة 1912، ولدت وقد احتضننى مهد من الحرير، ورضعت اللبن من إناء مذهب، وعشت فى منزلى وكأننى أعيش فى معهد الموسيقى».. هكذا تحدثت بهيجة عن نفسها، عندما كتبت قصة حياتها فى العدد 76 المنشور بتاريخ 13 يناير 1953 بمجلة الكواكب، على الرغم من أن بعض المصادر المتداولة ذكرت أنها ولدت عام 1908.
كان والد بهيجة، طبقا لكتاب «نزهة الألباء فى مطارحة القراء» للدكتور محمد فتحى عبدالعال، يعمل ناظر الخاصة السلطانية فى عهد السلطان حسين كامل، وتربط الأسرة صلة قرابة بإسماعيل باشا صدقى رئيس الوزراء، وأثناء دراسة بهيجة بمعهد راهبات المير دى ديو، انضمت إلى فرقته الموسيقية بتشجيع من والدها، الذى كان يؤلف ويلحن واستعان بالمايسترو الإيطالى جيوفانى بورجيزى، الذى كان يقود الفرقة الموسيقية بالإسكندرية ليعلمها أصول العزف ويدربها على التأليف الموسيقى والغناء.
وفى حوارها التليفزيونى ببرنامج «فى المرآة»، الذى أجرته المذيعة جيلان حمزة فى الستينيات، أشارت بهيجة إلى أنها ورثت حب الفن أبا عن جد: «أجدادى كانوا بيحبوا الفن، ووالدى مؤلف وعواد ورقاق وقانونجى، وكان بيلحن وإخواتى الصبيان والبنات تعلموا العزف، ووالدتى كانت بتعزف بيانو وعدد من الآلات الأخرى، وأبويا عمل مننا ما يشبه الأوركسترا المنزلى، وكان يقودنا كالمايسترو، فكان العزف والموسيقى تسلية البيت اليومية، وبدأت أعزف من سن 4 سنوات، وكنت موهوبة فى التقليد، وبدأت تأليف الموسيقى من سن 9 سنوات، وكنت أول واحدة فى مصر أكتب الموسيقى الشرقى».
تقول بهيجة وهى تسرد قصة حياتها بـ«الكواكب»: «إننى أذكر جيدا عندما أدخلنى أبى مدرسة الفرنسسيسكان وأنا فى الخامسة من عمرى، ووقتها قالوا عنى إننى أجمل طفلة فى الإسكندرية، كنت أتقن اللغات وتمرنت على الغناء الأوروبى، وكان صوتى يؤهلنى لأداء بعض الأغانى الخفيفة، فانتهيت إلى وضع بعض القطع الموسيقية التى لا تزال تذاع إلى اليوم بمحطات الإذاعة فى أوروبا وأمريكا، وفرح الأجانب لحبهم للموسيقى الشرقية، وبأننى استطعت كتابتها ليتمكنوا من عزفها». ورغم حب والدها الشديد للموسيقى وتشجيعه لأبنائه ولغيرهم على دراستها، فإنه عارض عمل بهيجة بالفن معارضة شديدة، وعن ذلك قالت: «حدث أن قدم إلى الإسكندرية بعض المخرجين السينمائيين من الأمريكيين، وراحوا يتسكعون فى شوارع المدينة بحثا عن وجوه شرقية جذابة، وشاهدوا أثناء جولتهم صورة لى فى فاترينة المصور «اليان»، فرأوا فى الصورة بغيتهم وعرفوا من المصور صاحبة الصورة، فجاءوا إلى منزلنا وعرضوا على الظهور فى أحد الأفلام، ولكن أبى طردهم شر طردة، وجلست أبكى حظى التعس وحياتى الشقية، فقد كان قلبى خاويا ونفسى متعطشة إلى الحب والفن وحياة الحرية».
كانت هذه الواقعة سببا فى زواج بهيجة وهى فى سن الثانية عشرة، كما ذكرت فى مذكراتها: «خشى أبى على من الفتنة، فقد كنت جميلة ورشيقة وخفيفة الدم، فأمر بتزويجى قبل أخواتى وأنا فى سن الثانية عشرة من ثرى إيرانى، وأخرجونى من المدرسة لأنها لا تقبل المتزوجات، ولم أكن فى هذه السن المبكرة أعرف ماهية الزواج أو الحب، فبدأت حياتى مع زوجى ثائرة رتيبة».
وطبقا لكتاب «نزهة الألباء فى مطارحة القراء»، فإن زواج بهيجة الأول من أمير إيرانى كان فى عام 1925 ثم حدث الانفصال وعادت للإسكندرية.
تحدثت بهيجة عن زواجها وطلاقها فقالت: «مضى على زواجى ثلاث سنوات ذقت فيهما مرارة الألم، حتى رضى الزوج أن يطلقنى من أسر الزواج، ورأيت أن أرفع عن كاهلى عبء المعيشة الرتيبة، فعكفت على موسيقاى أترجم بها هواجس نفسى وعواطفها الجياشة، وسافرت إلى فرنسا، حيث عزفت شيئا من موسيقانا وتخصصت فى دراستى هناك بباريس فى لون معين من الموسيقى الشرقية الغربية، ونلت دبلوما فى التأليف والتلحين، وأذيعت تلك المقطوعات فى الراديو الفرنسى ولاقت استحسانا هناك، وعدت إلى مصر ورحت أقضى على سأمى بتدريس الموسيقى لبنات الأسر الكريمة، وكن يحضرن إلى فى منزلى، وكنت أربح فى الشهر مائة جنيه، وكان هذا مبلغا محترما وقتذاك، ولو أننى لم أكن بحاجة إليه لأننى كنت فى بسطة من العيش فى كنف والدى، وبدأ اسمى يلمع فى سماء الإسكندرية وأنا بعد لم أتخط السابعة عشرة من عمرى، وعقد فى مصر مؤتمر للموسيقى وجاء ممثلو شركة أوديون يعرضون على أن أسجل بعضا من قطعى الموسيقية لعزفها فى المؤتمر، ففعلت ونلت الجوائز الكثيرة».
كانت بهيجة أول مصرية تقبل عضوة فى جمعية المؤلفين بباريس، وتحصل على حق الأداء العلنى لمؤلفاتها.
يذكر الكاتب أشرف بيدس فى كتابه «أبيض وأسود»، أن بهيجة بعد أن حصلت على دبلوم الموسيقى من فرنسا، سافرت إلى برلين ودرست الإخراج والمونتاج فى أكبر معاهدها، وأنها إلى جانب كونها أول مصرية تقبل فى جمعية المؤلفين بباريس، وأول مصرية تضع موسيقى تصويرية للأفلام، فهى أول بطلة فى تاريخ السينما، وصاحبة أول أسطوانة ظهرت فى السوق عام 1926، وحملت اسمها، وكانت تجيد الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والألمانية.
وطبقا لمقال «بهيجة حافظ.. ابنة الذوات رائدة التأليف الموسيقى والتمثيلى والإخراجى» للكاتب الصحفى أحمد السماحى، فإن شركات الأسطوانات انتبهت إلى موهبة بهيجة فى التأليف الموسيقى، فتعاقدت معها على تسجيل مؤلفاتها الموسيقية على أسطوانات لشركتى «كولومبيا» و«أوديون» فى القاهرة، وضمن حملة الإعلانات لأسطوانات بهيجة، نشرت مجلة المستقبل صورتها عام 1929 بالبرقع والطرحة على غلافها تحت عنوان «أول مؤلفة موسيقية مصرية»، وكانت هذه الصورة سبب اشتغالها فى السينما، عندما رآها المخرج محمد كريم، فاختارها لبطولة فيلم «زينب» الصامت.
هكذا كانت بهيجة حافظ أول مؤلفة موسيقى، وأول فتاة فى مصر تلحن وتكتب نوتة موسيقية، قبل أن تبدأ مشوارها السينمائى وتقوم ببطولة فيلم «زينب»، وهو أول فيلم روائى مصرى مأخوذ عن رواية للأديب الدكتور محمد حسين هيكل.
وطبقا لكتاب «تراث مصرى» لأيمن عثمان، فإن المخرج محمد كريم اختار بهيجة حافظ ابنة حافظ حسن باشا للقيام بالدور، وتغاضى عن مفرداتها التى تمتلئ باللكنة الإنجليزية، لأن الفيلم صامت، وكانت دعاية الفيلم قبل التصوير وأثنائه قائمة على بنت الحسب والنسب، بنت الباشا بطلة الفيلم، فثار البعض لهذه الأخبار وهاجموا يوسف وهبى، معتبرين أن عمل ابنة أسرة كبيرة فى السينما يتنافى مع التقاليد والكرامة، ونشر بعضهم فى الصحف يناشدون أسرة بهيجة حافظ بأن يمنعوها من العمل حرصا على سمعتهم، وأقامت الأسرة عزاء على روحها على اعتبار أنها ماتت فى نظرهم، وانتشر وقتها خبر أن أحد شباب أسرتها قرر قتلها تخلصا من العار الذى ألحقته بأسرتها بسبب اشتغالها بالسينما، فاضطر يوسف وهبى إلى الاستعانة بإدارة الأمن العام لتضع بهيجة حافظ تحت حراسة مشددة، خوفا على حياتها، فكانت تذهب إلى مكان التصوير وتعود إلى منزلها وحولها عدد كبير من رجال البوليس العلنى والسرى يحملون السلاح، واستمرت بهيجة مهددة بالقتل حتى تزوجت من محمود حمدى، الذى نشر فى الصحف أنه موافق على عمل زوجته بالسينما، فهدأت العاصفة، وخرج فيلم «زينب» إلى النور فى 15 إبريل 1930.
تعاقد محمد كريم مع الفنان سراج منير للقيام بدور البطولة أمام بهيجة، التى ذكرت أنها قابلت هدى شعراوى أثناء تصوير الفيلم، حيث طلبت مشاهدة بعض اللقطات، فذهبت بهيجة مع سراج إلى منزل هدى هانم، وشاهدوا أجزاء من الفيلم على سطح ستديو مصر، وفى هذا اليوم، قابلت محمود حمدى الذى تزوجته فيما بعد، حيث كان صديقا لسراج منير لتبدأ بينهما صداقة انتهت بالزواج.
تتحدث بهيجة وهى تحكى قصة حياتها بمجلة الكواكب عن عملها فى فيلم «زينب» وصلحها مع أسرتها: «كنت أتقاضى راتبا شهريا قدره خمسة وعشرون جنيها طوال المدة التى استغرقها إعداد وتمثيل وإخراج الفيلم، وطالت مدة الإخراج لأسباب كثيرة، فقد كانت معدات الإخراج كما قلت بدائية، وانتهت الرواية، وجلست فى ليلة العرض الأولى فى البنوار أشاهد نفسى وأشاهد الجماهير التى احتشدت تحيى الفيلم وأبطاله، ورأيت أمى وإخوتى وقبلونى بين البكاء الشديد، لقد صفحوا عنى لأننى لم أزل بل تزوجت وحافظت على سمعة أبى وأسرتى، فكان الصفح الجميل والتأم شملى مع أهلى».
لم تكتف بهيجة بالتمثيل فى فيلم «زينب »، وإنما وضعت الموسيقى التصويرية للفيلم، وألفت فيه حوالى 12 مقطوعة موسيقية، وطبقا للكاتب الصحفى أحمد السماحى فإنها سجلت تلك المقطوعات الموسيقية على أسطوانات خاصة، ومنحتها الجمعية الدولية الموسيقية للهواة دبلوم التفوق فى فن الموسيقى تقديرا لها ولميزاتها الفنية النادرة، كأول مصرية حازت على هذه الشهادة المحترمة. وتقول فى مذكراتها: «عندما أراد يوسف وهبى أن يخرج فيلم «أولاد الذوات » على الشاشة، أصرت حرمه وقتذاك، السيدة عائشة فهمى، أن أكون البطلة، وتعاقد معى على مبلغ 250 جنيها أجرا، وسافرت إلى باريس لالتقاط المناظر، ولظروف خاصة حيل بينى وبين أداء الدور، وتم التفاهم مع يوسف وهبى على أن أعود إلى مصر، وأرسل هو فى طلب أمينة رزق لتؤدى دورى فى الفيلم، ورفعت قضية عليه مطالبة بالتعويض، وتحدد يوم لبيع عفش يوسف وهبى بالمزاد، وقبلت فى آخر لحظة تقسيط المبلغ الذى حكمت به لى المحكمة عليه وانتهى الإشكال ».
بعد هذه القضية، رأت بهيجة أن تؤسس شركة إنتاج وألا تؤجر مواهبها لأحد، فأسست وأنتجت شركة «فنار فيلم»، وأخرجت فيلم «الضحايا»، وقالت عن هذه الخطوة: «كانت فكرتى الأولى أن أنتج أفلاما موسيقية، وأقوم بتأليف موسيقاها، وأسجلها على أسطوانات، ولما لم أجد الوسائل اللازمة لتحقيق طموحاتى الموسيقية، تحولت إلى الإنتاج السينمائى، وجعلت للموسيقى دورا مهما فى أفلامى، وأسست مع زوجى محمود حمدى شركة «فنار فيلم »، وتولى هو إدارة الشركة، وبعت من أجل إنشاء الشركة عزبتين ورثتهما عن والدى، لشراء المعدات والآلات السينمائية برأسمال قدره خمسون ألف جنيه».
كان فيلم «الضحايا» يناقش موضوعا اجتماعيا، بل كان أول فيلم يتحدث عن قضية الإدمان وتعاطى المخدرات، كما اشتركت فيه ليلى مراد بالغناء لأول مرة، وتقول عنه بهيجة فى حوارها مع جيلان حمزة: «الفيلم كان بيناقش موضوعات اجتماعية وحوادث حصلت فى إسكندرية، وذهبت للمستشفى لأرى المرضى والمدمنين حتى أقلدهم وأستطيع القيام بالدور، وفى نهاية الفيلم أموت، فكانوا بيلحقوا الناس فى السينما بالنشادر من كتر التأثر، رغم إن الفيلم كان صامتا».
وفى مذكراتها تحدثت بهيجة عن الحرب التى واجهتها وقت عرض فيلم «الضحايا»: «حوربت محاربة شديدة لدرجة أنهم كانوا يمزقون الأفيشات الخاصة بالفيلم، فلجأت إلى محافظ القاهرة الذى سمح لى أن أكتب اسم الفيلم على الأرض بالأبيض تحت أقدام عساكر المرور فى الميادين ومفترق الطرق، ونجح الفيلم نجاحا عظيما أطمعنى فى إعادة إخراجه ناطقا، وفعلت، وعاوده النجاح من جديد، ودر على الفيلم أرباحا كبرى، فأخرجت فيلم «الاتهام » ناطقا عام 1934، ثم رأيت أن أخرج فيلما جديدا فى كل شىء جديد على السينما المصرية، فأخرجت فيلم «ليلى بنت الصحراء »، ورفضت مشاركة أحمد سالم لى فى فيلم «فنار»، فعمد إلى عرقلتى وكان قد تسلم إدارة استديو مصر، وعرض الفيلم فى مؤتمر السينما فى فينسيا عام 1937 ونال الجائزة، ولم يمنعنى هذا من موالاة الدرس والإنتاج فى ميدان الموسيقى حتى بلغ ما ألفته أكثر من 800 قطعة موسيقية تعزف فى أوروبا ومصر ».
وفضلا عن الإنتاج والتمثيل والإخراج، وضعت بهيجة الموسيقى التصويرية لأفلامها، وحصلت على جائزة التفوق سنة 1933 من مراقبة التمثيل بوزارة المعارف.
دخلت بهيجة حافظ مرحلة الإنتاج الكبير بفيلم «ليلى بنت الصحراء»، وهو الفيلم الثامن والخمسون فى ترتيب الأفلام المصرية وأحد أهم الأفلام، ووضعت موسيقاه التصويرية كما قامت بتصميم الأزياء والملابس التاريخية للأبطال، ووفرت له إمكانيات مادية ضخمة، وتعاقدت على إخراجه مع المخرج الإيطالى ماريو فولبى، وكانت قصة الفيلم تختلف عن أفلامها السابقة، فلم تقتبسها من أصل أجنبى ولكنها استوحتها من قصة عربية ومن ديوان «ليلى العفيفة »، وهى شاعرة عربية عاشت فى القرن الخامس الميلادى، وكانت شديدة الحسن، ذاع صيتها فخطفها كسرى لتدور الأحداث حول تعذيبها لإجبارها على الرضوخ له، بينما هى تتمسك بعفتها وإخلاصها لحبيبها الذى يحارب من أجل تحريرها، وقبل انتهاء تصوير الفيلم اختلفت بهيجة مع المخرج الإيطالى الذى طالبها بأجر إضافى، لأن تصوير الفيلم تطلب العمل فى الصحراء لأسابيع، فرفضت، وانسحب قبل اكتمال العمل، فتولت بهيجة إخراج الفيلم، واستقبل الجمهور الفيلم بترحاب شديد، وكان أول فيلم يرشح للعرض فى مهرجان دولى، حيث وقع عليه الاختيار ليشترك فى مهرجان البندقية، ولكن حدث ما لم يكن فى الحسبان.
وطبقا لما ذكره الباحث التركى مراد أوزيلدريم فى كتابه «وحدة الموسيقى العربية والتركية فى القرن العشرين»، فإن وزارة الخارجية الإيرانية اعترضت على الفيلم الذى يأخذ المشاهد إلى إيران القديمة، ومن سوء حظ بهيجة أنه عرض تزامنا مع خطوبة الأميرة فوزية ابنة الملك فؤاد الأول وشقيقة الملك فاروق على شاه إيران، فاعترض عليه الإيرانيون الذين اعتقدوا أنهم تعرضوا للإهانة، وتكبدت بهيجة وزوجها خسائر مالية كبيرة، والأهم من ذلك منع عرض الفيلم فى مهرجان البندقية السينمائى، وتقدمت بهيجة بطلب للمحكمة لعرض الفيلم، وتمكنت من الحصول على إذن لعرضه عام 1944، ولكن لم يكن من الممكن عرض الفيلم إلا تحت اسم جديد وهو «ليلى البدوية » بعد تعديل بعض المشاهد.
وفى مذكراتها قالت: «خلال العرض أبلغ شاه إيران السلطات بأن بالفيلم تعريضا به وبإيران فأوقف عرضه، وطلبت حكومة إيطاليا تغيير اسم الفيلم، لأن موسولينى يريد أن يشاهده، ففعلت، وأنفقت فى هذا الفيلم أكثر من ستين ألف جنيه ضاع نصفها فى رد المعاكسات والمضايقات وخسرت، وتحملت خسائره وظللت أرزح تحت عبئها ».
وابتعدت بهيجة حافظ عن السينما، بعدما خسرت مبالغ كبيرة وصلت إلى 18 ألف جنيه فى ذلك الوقت، ورفعت شركة فنار فيلم دعوى تعويض على الحكومة بمبلغ 20 ألف جنيه، لأن قصة الفيلم سبق التصريح بها من الرقابة قبل التصوير، وظلت القضية معروضة أمام القضاء ست سنوات إلى أن صرح بإعادة عرضه بعد تغير الظروف السياسية، التى أدت إلى منعه وبعد إدخال بعض التعديلات عليه وتغيير اسمه، وعرض بعد ذلك بسينما الكورسال بتاريخ 12 مارس 1944.
توقفت بهيجة وفنار فيلم عن الإنتاج لمدة عشر سنوات- طبقا لما ذكره الكاتب الصحفى أحمد السماحى- ثم أنتجت فيلم «زهرة السوق » عام 1947، وشارك فيه بالغناء لأول مرة المطرب اللبنانى وديع الصافى، ولكن لم يحقق الفيلم نجاحا، وكان سببا فى إشهار إفلاسها، فتوقفت عن الإنتاج السينمائى، ولكنها استمرت فى نشاطها الاجتماعى والثقافى، فأنشأت أول نقابة عمالية للموسيقيين عام 1937 وظلت هذه النقابة قائمة إلى عام 1954، وكانت أول نقيبة لها، وأنشأت عام 1959 صالونها الثقافى وكان يحضره كبار الشعراء والفنانين والموسيقيين، وتعقد فيه ندوات فنية غنائية، وتعزف على البيانو، كما كانت لديها مكتبة زاخرة بشتى الكتب عن الفن والأدب باللغتين العربية والفرنسية، لذلك وصفها الناقد سمير فريد، فى كتاب «موسوعة صانعات الأفلام العرب» بالمثقفة الحقيقية فى جيل الرائدات.
كان آخر عمل شاركت فيه بهيجة بعد فترة غياب عن السينما، عندما اختارها المخرج صلاح أبوسيف لتشارك فى مشهد بفيلم «القاهرة 30 » عام 1966 لتجسد دور إحدى أميرات الأسرة المالكة، ثم خفتت الأضواء عن الفنانة والمنتجة والموسيقية والمخرجة ورائدة الفن الكبيرة، وطبقا لـ «السماحى»، فإنها مع مرور الأيام عانت من العوز، وحاولت أن تعرض خدماتها على مؤسسة السينما لكنها لم تجد استجابة، ووصل بها الحال إلى أن قطع عنها التيار الكهربائى والتليفون لعدم سداد مستحقاتهما، ولم يكن هناك أحد يقوم على خدمتها فى أيامها الأخيرة، وأصيب جسدها بالوهن وعيناها بالمرض حتى أصبحت عاجزة عن الرؤية.
ولأن الدنيا لا تبقى على حال، نسيها الجميع وظلت حبيسة الوحدة والمرض، فجلست على مقعد بغرفة الاستقبال، تجتر ذكريات أيام المجد والثراء، وأمام طاولة عليها بقايا طعام وسط منزل يغمره التراب، صعدت روح ابنة الحسب والنسب بنت الباشا، التى ولدت وفى فمها ملعقة ذهب، ولكنها ضحت بكل شىء من أجل الفن فى 13 سبتمبر عام 1983 فى شقتها بشارع قصر النيل، ولم يشعر أحد بوفاتها إلا بعد مرور أكثر من يومين، حيث اكتشف بواب العمارة وفاتها، واستدعوا أهلها من الإسكندرية وجاءت الشرطة وعاينت الجثة، وقرر الطب الشرعى أنها توفيت بالشيخوخة وهبوط القلب، وشيعت لمثواها الأخير دون أن يمشى فى جنازتها أحد من الفنانين.
ورغم شهرتها العالمية، لم يعد الكثيرون يعرفون اسم بهيجة حافظ حتى رأوا صورتها تتصدر مؤشر جوجل العالمى، فى 4 أغسطس عام 2020، عندما قرر «جوجل » أن يحتفل بميلاها، ويذكر العالم برائدة الفن والموسيقى، الممثلة والمنتجة والمخرجة، وصاحبة مئات المقطوعات الموسيقية التى عزفتها وأذاعتها محطات العالم، وبنت الباشوات التى ماتت وحيدة منسية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة