ذهبت سيدة الغناء العربى أم كلثوم، إلى مدينة المنصورة لإحياء حفل يوم 7 مايو 1960 بمناسبة عيد محافظة الدقهلية القومى، فسبقتها الكاتبة الصحفية حسن شاه إلى قريتها طماى الزهايرة، بمركز السنبلاوين، وزارت البيت الذى ولدت فيه، والبيت الآخر الذى نشأت فيه، ورأت الكُتاب الذى كانت تجلس على أرضه مع باقى الأطفال لتحفظ القرآن، وتتلقى ضربات سيدنا الشيخ عبدالعزيز، وهو الرجل الذى قالت إنها لم تخف فى حياتها من مخلوق سواه.
قابلت حسن شاه بعض جيران أم كلثوم، ومن عاصروها فى طفولتها، ثم عادت إلى المنصورة، وجلست فى كواليس المسرح فى الاستاد الرياضى تراقبها، وحصلت منها على إجابات لأسئلة، ثم استكملت حوارها معها فى ضوء نهار اليوم التالى للحفل، بعد ساعات قليلة استراحت فيها، ونشرت مجلة آخر ساعة حصيلة الرحلة والحوار فى عدد 1334، بتاريخ، 18 مايو، مثل هذا اليوم، 1960، ونعرف منها جانبا من كفاح هذه القروية التى شقت بحنجرتها الذهبية طريقها إلى القمة.
استمعت حسن شاه فى طماى الزهايرة إلى السيد أبوالعينين متولى زميلها فى الكتاب، وروى طرائف عن شقاوتها عندما كانت تلميذة، وكيف كانت تذهب مبكرة إلى الكتاب لتكسير الألواح لزملائها التلاميذ، وتسكب الحبر على دفاترهم، وروى المعلم عطية غبور أكبر شيوخ القرية 80 عاما، ذكرياته عن أول حفلة غنت فيها أم كلثوم خارج طماى الزهايرة، وكانت فى الثانية عشرة من عمرها، وغنت على سطح بيت أبورزق بالسنبلاوين، ويومها عادت وفى جيبها مائة وخمسون قرشا فى الوقت الذى لم يزد أجرها عن 25 قرشا فى أى حفلة غنت فيها داخل القرية.
وحكت السيدة بسيونية جارة أم كلثوم فى الحارة وصديقتها فى الكتاب، عن ليالى الصيف التى كانت تغنى فيها بصوتها الصغير الرفيع فوق سطح بيتها الريفى، وكان والدها يصاحبها بالإيقاع على الدف أو آنية من آوانى الدار، ويتذكر محمود السيد حسن أول أغنية عاطفية غنتها هناك، وكانت قصيدة ساذجة تقول: «كعصافير يحسبن القلوب من الحب / فياليتنى طير أجاور عشها / تغرد فى جنب وتخرج فى جنب».
من طماى الزهايرة إلى المنصورة، ذهبت حسن شاه، وفى كواليس المسرح رأت أم كلثوم تروح وتجىء فى انفعال سعيد وقلق مرح، وسألتها: متى زرت المنصورة آخر مرة؟ فأجابت: «لم أزر الدقهلية كلها منذ عام 1944، فى تلك السنة ذهبت إلى قريتى طماى الزهايرة» لاحتفل بمولد سيدى العوضى، وهو شيخ له مقام فى بلدنا، وكنت بدأت حياتى الفنية وأنا طفلة بالغناء فى مولده».
سألتها حسن شاه: «حدثينى عن أجمل ذكرياتك فى قريتك طماى الزهايرة، أجابت وهى تضحك: «أجمل ذكرياتى فى القرية ترتبط بأيام طفولتى، وأنا لا أذكر تلك الأيام إلا يقفز إلى خيالى طيف سيدنا الشيخ فى كتاب قريتنا، وتعاودنى ذكريات عصاه التى كثيرا ما داعبتنى مداعبات قاسية، كان - الله يرحمه - اسمه الشيخ عبدالعزيز، وكانت له هيبة عظيمة، وكان لا يكاد يمر يوم دون أن يعاقبنى عقابا شديدا، إن لم يكن بسبب بلادتى وعدم حفظى للدرس، فمن أجل شقاوتى وتدبير مقالب لباقى التلاميذ فى الكتاب، كنت باختصار تلميذة بليدة عفريتة، وكان سيدنا الشيخ يكرهنى، وكنت أنا أخضه وأتمنى له الموت».
تضيف: «بالفعل تحققت أمنيتى ومات الشيخ عبدالعزيز، ويومها بلغنى الخبر فكنت أطير من الفرح، ولكن الهواجس ملأت رأسى، سيدنا الشيخ بحاله يموت، غير معقول، وأسرعت إلى بيته ورأيته ممددا على السرير فاطمأننت، وزاد اطمئنانى عندما سرت وراء الجنازة، ورأيت المشيعين ينزلون إلى القبر ويغلقونه عليه ويعودون من غيره، تصورت ساعتها أن عهد الدراسة انتهى بالنسبة لى، كنت اعتقد أن سيدنا الشيخ عبدالعزيز هو الذى ابتدع مسألة التعليم، وأن وفاته قد خلصتنى نهائيا من الحفظ والدروس».
تذكر أم كلثوم: «خيبه أملى كانت عندما أرسلنى أبى بسبب وفاة سيدنا إلى مدرسة السنبلاوين، وعندما قدر لى أن أسير على قدمى كل يوم ذهابا وإيابا خمسة كيلومترات كاملة كى أصل إلى المدرسة، ساعتها فقط بكيت على أيام الشيخ عبدالعزيز».
سألتها حسن شاه: «ماذا تذكرين عن أيام كفاحك الأولى عندما كنت مطربة مغمورة فى القرى؟ أجابت أم كلثوم: «أتذكر أننى طلبت لأحياء فرح فى إحدى القرى البعيدة عن بلدنا، كنت مريضة بالدوسنتاريا، ومع ذلك وافقت، وكانت وسيلة الانتقال الوحيدة بالنسبة لى وللفرقة هى الحمير، وركبت حمارا ظل سائرا بى وأنا فى أشد حالات المرض أكثر من عشر ساعات، وعندما وصلنا إلى البيت الذى يقام فيه الفرح، فوجئت بورقة معلقة على الباب ومكتوب عليها أن الفرح تأجل إلى موعد آخر».
وانقطع حديث أم كلثوم لأن موعد غنائها أزف، وصعدت إلى المسرح لكن الحوار اكتمل فى صباح اليوم التالى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة