كان الرئيس العراقى عبدالسلام عارف يلقى خطابه أمام عشرات الآلاف المحتشدين فى أسوان يوم 14 مايو، مثل هذا اليوم، 1964، وأثناء حديثه صدرت الأوامر بنقل الكهرباء إلى أسلاك التفجير التى تتصل بشحنات الديناميت المثبتة فى السد الرملى الأمامى، وذلك لإحداث التفجير الذى حول نهر النيل من مجراه القديم إلى مجراه الجديد، فى أهم وأصعب خطوة بمشروع بناء السد العالى، حسبما تذكر الأهرام فى عددها يوم 15 مايو 1964.
شهد الحدث التاريخى إلى جانب الرئيس جمال عبدالناصر، الرؤساء، السوفيتى خرشوف، والعراقى عبدالسلام عارف، واليمنى عبدالله السلال، وتصف «الأهرام» وقائع الحدث قائلة: إن الرئيس عبدالناصر تحدث للجماهير المحتشدة، ثم ألقى خرشوف خطابه، ثم السلال، فالرئيس عارف، وكل شىء كان معدا وجاهزا للحظة التاريخية، كانت قناة التحويل قد تم ملء ما يصل ارتفاعه فيها إلى 5 أمتار بالمياه حتى لا تؤثر قوة اندفاع مياه النيل فى القناة بعد تحويل المجرى على أساسات الأنفاق والمحطة الكهربائية، وكان السد قد أخلى تماما، ولم يعد يظهر فوقه من على البعد سوى آثار أقدام أمضت الليل تشرف على استعدادات التحول التاريخى، وصندوق التفجير فى مكانه ينتظر اللحظة الحاسمة.
تضيف «الأهرام»: «فى الثانية عشرة والدقيقة 33 جاءت اللحظة الحاسمة إلى المنصة، التى وضع على حافتها صندوق التفجير، اتجه الرؤساء عبدالناصر وخروشوف وعارف والسلال، بينما ألوف تتابع المشهد فى ترقب مثير، بعضهم يقفون على قمم الجبال ينتظرون وعيونهم على قاع القناة، وبعضهم وصلوا إلى قمة الأنفاق، واتخذوا مكانهم فوقها، ونظرهم على السد الرملى ينتظرون لحظة تفجيره، وفى لحظة وقع الانفجار وبارتفاع الجبل، تطايرت سحابة من الرمال المتفجر، بينما الصمت يسود المكان الواسع، ولا أحد يتكلم».
تذكر «الأهرام» أن ضربة الانفجار حركت الجانب الأيسر من السد، وفى خلال لحظات لم يكن هناك سوى رمال تتحرك وصمت مطبق، ثم ظهر خيط رفيع من الماء، بدا كما لو كان متسللا من وراء السد يعلو فوقه، ويحفر لنفسه بين رماله طريقا راح مع اتساع الخيط يتسع هو الآخر ويتسع، وعمله يزداد فى بطن السد حتى أصبح شريطا واضحا.
كان أول المتكلمين فى المنصة، التى وقف فيها الرئيس عبدالناصر يتابع المشهد بمنظار بمكبر، نيياروجنى وزير القوى الكهربائية السوفيتى، الذى قال فى انفعال ونشوة: «بالضبط كما حدث فى المعمل»، وتفسر «الأهرام» كلماته بقولها: «كان نيياروجنى قد حضر عدة تجارب معملية تم فيها تصوير انفجار السد الرملى، وتم بالملليمتر حساب انهيار الرمال حتى يمكن لتيار المياه بقوته المحسوبة أن يجرفه فى مدى 28 دقيقة».
تضيف «الأهرام»: «لمدة 5 دقائق كاملة ظل الصمت مسيطرا، حتى اتسع شريط لمياه فوق السد وراح بعرض القناة يجرف أمامه رمال السد، وانطلق أول صوت من الواقفين: «مبروك يا جمال، مبروك يا جمال»، ومن فوق الجبل بدأت الجموع الواقفة تهتف: «الله أكبر، الله أكبر»، وفى المنصة التى وقف فيها الرؤساء ارتفع صوت خروشوف بالروسية، بينما مترجمه الخاص ينقل كلماته إلى عبدالناصر ويقول له: «الرئيس خروشوف يقول إنه لم ير فى حياته منظرا مثل هذا. إن منظر المياه وهى تندفع فى قوة يشبه تدفق الحياة».
تذكر «الأهرام» أن اندفاع المياه كان يزداد، وكتل الرمال تتدافع أمامها، وهتافات الجموع تعلو: «الله أكبر، مبروك يا جمال»، والتفت «عبدالناصر» وهو يسأل: فين صدقى سليمان «وزير السد العالى»، وكان على مقربة، فمد يده إليه يقول له: «مبروك»، وظل الرئيس ممسكا بيد الوزير للحظات، وفجأة قال جروميكو وزير الخارجية السوفيتى، والرئيس فيما بعد: «الجياد البيضاء، الجياد البيضاء»، وقال المترجم إنه يعنى أن مياه النيل بدأت تتدفق إلى القناة كالشلال مكونة أمواجا بيضاء يشبهونها فى الاتحاد السوفيتى بالجياد البيضاء.
تضيف «الأهرام» أن المياه وصلت إلى المنصة حاملة معها رمل السد المنهار، الذى لونها كما لو كانت مياه الفيضان محملة بالطمى، وبدا المشهد رائعا مثيرا، فنهر النيل العظيم بدأ حياة جديدة. إن هذا النهر الخالد يغير لأول مرة منذ الأزل مجراه الطبيعى، وتنحنى مياهه مستسلمة لإرادة الإنسان المصرى.
وتذكر «الأهرام»: دوى انفجار السد الخلفى، وكان مقررا تفجيره على مرحلتين، الأولى عند وصول المياه فى قناة التحويل إلى منسوب 100 متر، والثانية حين يصل المنسوب إلى 114 مترا، ولكن المشرفين وجدوا أن المياه ارتفعت فجأة وبسرعة فائقة إلى منسوب 114 مترا، فقاموا بضربة واحدة ناجحة، وبعد انهيار السد الخلفى مباشرة، اندفعت مياه النيل خلف السد إلى قناة التحويل الخلفية، وتم اللقاء بين القناتين، بين مياه قناة التحويل الأمامية والخلفية، وأحدث اللقاء تلاطما قويا داخل الأنفاق، وعلى مدى 55 دقيقة كاملة لم يتحرك أحد من مكانه حتى امتلأت القناة بالمياه.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة