هل يستمر الموظفون فى إضرابهم أم لا؟.. انشغل الجميع بالإجابة على هذا السؤال، وكانت المناسبة انتهاء مهلة الثلاثة أيام التى أضرب الموظفون فيها عن العمل، أثناء ثورة 1919 التى بدأت شرارتها يوم 9 مارس، وطبقا لمذكرات الشيخ عبدالوهاب النجار عن ثورة 1919 «الأيام الحمراء»، فإن الناس أصبحوا فى صباح 6 إبريل، مثل هذا اليوم 1919، بين مصمم على الإضراب جاد فيه، وبين آخر يقدم رجلا ويؤخر أخرى، فكان بعضهم يذهب إلى المصلحة ويقيد اسمه ثم يخرج ليحمس الناس، ويظهر أنه مضرب ظاهرا وباطنا، وبعضهم يذهب إلى مصلحته فيأتيه من يخرجه رغم أنفه.
يضيف عبدالوهاب النجار، أن اجتماعا عقد للنظر فى مسألة الإضراب، ووصل الأمر درجة أن جعفر ولى باشا أرسل السعاة إلى منازل الموظفين يبشرهم بأن مطالبهم ستجاب وأن يعودوا إلى عملهم.
لم يكن الإضراب لمطالب فئوية، وإنما كان تجسيدا للمطالب الوطنية العامة، مثل كف جنود الاحتلال الإنجليزى عن الطواف فى الأرياف لمنع اعتدائهم على الأهالى، والعفو عن المدنيين الذين تم اعتقالهم منذ قيام الثورة يوم 9 مارس، ومن جهة أخرى، فإنه جاء فى سياق حالة نوعية سادت ثورة 1919، ويتحدث عنها عبدالرحمن فهمى فى الجزء الأول من مذكراته «يوميات مصر السياسية» قائلا:
«بدأت الثورة المصرية فى 9 مارس 1919، وأخذت تشتد ويستعر أوراها حتى نهاية شهر مارس تقريبا، ثم أخذت الحالة تهدأ نوعا ما بعد ذلك، ويمكن أن يقال بالإجمال إن لهيب الثورة قد هدأ فى أوائل إبريل 1919 من الناحية العسكرية فقط، وذلك لأن النفوس كانت لا تزال محنقة تتوثب للاندفاع ثانية ».
يضيف «فهمى »، أن يوم 6 إبريل 1919 كان موعد رجوع الموظفين إلى مصالحهم ووزاراتهم ولكنهم أبوا أن يعودوا، وكانت المساعى تبذل للخروج من هذا المأزق الحرج، وكانت نتيجتها أن أصدر السلطان فؤاد فى مساء 6 إبريل منشورا نصه كالآتى:
«إنى أنشر بين قومى هذه الكلمات التى كانت تختلج بصدرى من الوقت الذى أخذت تتوارد إلى فيه ملتمسات الأمانى القومية نحو مستقبل البلاد، وإنى بالطبع لا أعنى بالبلاد إلا بلادنا المباركة، لا أعنى بالبلاد إلا وطننا العزيز هذا، الوطن العزيز الذى اقتضت حكمة الله أن يكون جدى الأكبر محمد على الكبير أكرم الله مثواه صاحب عرشه، جلس جدى رحمه الله على عرش مصر والوقت عصيب والفتن سائدة والقوم فى شقاء بين ظلم الحكام وظلمات الجهالة، فتعب فى راحة الوطن العزيز، وسهر على أمنه وسعادته ونشر فى أرجائه رايات العدل وأنوار العرفان، فضرب لنا بذلك مثلا شريفا لا يجرد بنا أن نضل بعده أبدا ».
أضاف السلطان فؤاد فى بيانه: «كلما شعرت بدم هذا النابغة العظيم، محمد على، يجرى فى عروقى، أشعر بمحبة هذا الوطن العزيز الذى لا ترضى نفسى بأن يكون محبوبا لغيرى أكثر منى، فيزداد اهتمامى بما يعود عليه من الخير والسعادة بعون الله، ولما كنت عاملا على هذا المبدأ الشريف بكل ما فى وسعى، فإنى أطالب أبنائى المصريين بما لى من حق الأبوة عليهم أن يتناصحوا بعدم الاستمرار على المظاهرات، التى كانت عواقبها غير محمودة فى بعض الجهات، وأن يخلدوا إلى الراحة والسكون وانصراف كل إلى عمله، وهذه يد المساعدة التى أطلبها منهم ».
قبل أن يصدر السلطان فؤاد هذا النداء، خرجت جنازة من قصر العينى لشاب قتله الإنجليز عند سبيل والدة عباس الأول، وذلك أثناء مرور جنازة الطفل «ابن السمكرى»، الذى قتله الإنجليز أيضا فى يوم 5 إبريل 1919 أثناء الحشد فى جامع ابن طولون.
يصف «النجار » مشهد الجنازة، قائلا: «صار الناس ينضمون إليها بترتيب بديع لم ير مثله، وقرر الذين شاهدوها وشاهدوا أفخم الجنائز فى هذا العصر أنهم لم يروا احتفال جنازة مثل هذا الاحتفال جلالا وجمالا وحسن تنسيق وبديع إتقان، فقد سار أمام الجنازة جماعة يركبون الموتوسيكل والدراجات يوسعون الطريق للسائرين بها، يتلوهم طلبة مدرستى البوليس والحربية، ثم نحو خمسين ضابطا من ضباط الجيش، فعدد من ضباط البوليس فجند من الحرس السلطانى وبحارة الركائب السلطانية، وبعض جند الجيش من الأورطة السودانية، فنعش القتيل فموظفو الحكومة من الوزارات والمصالح الحكومية.
استوقفت إحدى السيدات السائرين بالجنازة وأطلت عليهم من أحد البيوت، وألقت خطبة مؤثرة وهتفت للاستقلال ولشهداء الحرية والوطنية، وحمل ضباط الجيش النعش على أعناقهم عند «العتبة الخضراء ».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة