انتقد الكاتب الدكتور يوسف إدريس، الموسيقار محمد عبدالوهاب بعنف واتهمه بالعزلة والفردية، فيما رآه الشاعر صلاح عبدالصبور أنه «لم يعد امتدادا لسيد درويش، ولكنه تفوق عليه»، وجاء الرأيان ضمن آراء كثيرة وغنية فى العدد الخاص عن عبدالوهاب بمجلة الكواكب، رقم 633، يوم 14 أبريل 1964، وواصل القراء الاطلاع عليه فى 15 أبريل، مثل هذا اليوم، وكان رأى إدريس ساخنا، حيث قال فيه: بدأ عبدالوهاب بداية الفنان الشعبى ولكنه انتهى إلى فنان غير شعبى، ولد عبدالوهاب فى بيئة شعبية، وترعرعت موهبته الوليدة فى غمار الحياة الشعبية، وتفتحت وهى تعى التراث الشعبى وحياة الجماهير والناس، وأفاد عبدالوهاب من هذا ففر إلى أول الصف ولمع، وبرز بين المغنيين وتفوق، والتقطته الطبقة الحاكمة فى ذلك الوقت لتجعل منه فنانها ومطربها، فانفصل عن البيئة التى ولد وتربى فيها، ولم يعد فنانا شعبيا بقدر ما أصبح فنانا تحكمه الحرفة، أصبح «صنايعى» منفصلا عن أحاسيس الناس ومشاعرهم وانفعالاتهم، وحصر الأغنية فى نطاق الانعزال.
يضيف «إدريس»: «كان من المفروض أن يظل عبدالوهاب وفن عبدالوهاب يستمدان جذورهما من الشعب وآلامه وآماله، وإذا بعبدالوهاب يحبس نفسه بين جدران أربعة، ولا يخرج من مخدعه ليقدم لونا خالصا من الفن، فن الآهات والابتهالات للمحبوب ولا شىء أكثر، واستحق عند هذا أن يحمل لقب مطرب الملوك والأمراء».
ترك عبدالوهاب نفسه فى الرفاهية التى أتاحها له وضعه من الطبقة الحاكمة، فأفسده هذا الانغماس وجعله يغالى فى انفعاله فإذا هو يتجه إلى الخارج لكى يحاكى موسيقاه أو يقتبسها، ويترك الجذور الشعبية للأغنية المصرية، على عكس سيد درويش تماما، إن سيد درويش لم يستوح إلا الجماهير الشعبية وإحساسها وآلامها، ولم يكن انفصاليا ولا فرديا فى فنه، ولو سار عبدالوهاب فيما بدأه سيد درويش لفاقه وحقق مستويات جديدة للموسيقى المصرية والأغنية المصرية، فعبدالوهاب أوفر موهبة وأوفر قدرة.
يواصل «إدريس» هجومه: «هناك مثل يقول إن الفنان الأصيل تفسده بعض المتع التى يجدها فى الرفاهية، ولكن إلى وقت قصير، فجوهر هذا الفنان يرغمه على الثورة على نفسه، والهرب من الرفاهية والاستسلام للمتع، فيجدد نفسه ويجدد موهبته، وعندما أتاحت الطبقة الحاكمة لعبدالوهاب هذه الرفاهية بعد بدايته كفنان شعبى، كان من الممكن أن يسترد أصالته الشعبية، ولكنه لم يفعل، كان وما زال حريصا على الاستمتاع بالحياة والرفاهية، فزاد من انعزاله وفرديته، أخطر من هذا كله، التقط عبدالوهاب كل المواهب الجديدة، وأعطاها لونه وخواصه كلها، فجنى جناية كبيرة على الأغنية الجماعية والألحان الشعبية من الشعب، المستوحاة من أحلامه وأمانيه وآلامه، هذا فى الوقت الذى نعلم فيه جميعا عن يقين أن الأغنية هى ألصق العيون جميعا بالشعب وأقواها تأثيرا فيه».
ويدعوه «إدريس» قائلا: «أدعو عبدالوهاب أن يخرج من انعزاله وفرديته، أدعوه أن يذهب إلى أسوان ليعيش أياما مع بناة السد العالى، ويرى ويسمع كيف يبذلون العرق والجهد فى سبيل أشرف غاية، إن ذلك أجدى عليه من ألف رحلة لبيروت أو أوروبا، أدعوه أن يزور قرى مصر ومناطقها الزراعية والصناعية لكى يستعيد جذوره الشعبية، ويستدرك ما فاته، فهل يقبل عبدالوهاب هذه الدعوة؟».
أما الشاعر صلاح عبدالصبور، فقال: «لما دخل عبدالوهاب حقل الفن أخذ ناحية واحدة فقط من نواحى سيد درويش، طورها ونماها وهى ناحية الأغنية الفردية، ولم يعبأ بتطوير الأوبريت أو غيرها من الألحان الجماعية المركبة، اتجه بكل طاقاته نحو الأغنية الفردية، فأنتج منها وتطور بألحانها الذى طعمه بالاقتباس مثل «النيل نجاشى» و«بلبل حيران» إلى طابع آخر مختلط بين الشرق والغرب، ولكنه منسجم، وفى حدود الأغنية الفردية يمكننا القول إن كثيرا من تلك الأغانى سيكتب لها الخلود».
يرى عبدالصبور، أن عبدالوهاب هو الملحن الأول للأغنية الفردية، وسيد الملحنين جميعا، ومن أسباب طابع الفردية فى موسيقاه أن ثورة 1919 التى أنتجت سيد درويش وألحانه الجماعية لم تتكرر، ولم تواصل تقدمها الثورى، بل المجتمع بعدها اتجه إلى المهادنة وتصفية القضية الوطنية وخاصة بعد معاهدة 1936، فانصرف الفنانون إلى التغنى بالعواطف الفردية السطحية، وحدث نفس الشىء فى الشعر والقصة وجميع ألوان النشاط الأدبى فى هذا العصر، وكان بديهيا أن تنسجم الموسيقى مع ألوان الفن الأخرى.
يذكر «عبدالصبور»، أن مدرسة عبدالوهاب هى مدرسة التعبير عن المعانى الفردية، وساهم فى الارتقاء بأنواع الموسيقى الراقية كموسيقى الفرحة والأغنية الراقصة، وأعطاها اتساعا وغنى، فلم يعد فيما يلحنه امتدادا لسيد درويش ولكنه تفوق عليه وعلى جميع من سبقه وعاصره من الملحنين.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة