تقاس قيمة أى فنان بالإضافة الفنية التى منحها لفنه.. محمد فوزى مثلا ليس موسيقيا عبقريا فحسب لأن موسيقاه تعجبنا، ولكن لأنه خط مسارا جديدا فى الموسيقى، امتد أثره لأجيال من بعده مثل بليغ حمدى «الذى أضاف أيضا خطا جديدا» وهكذا.. الأمر أشبه دائما بتيار النهر الذى يشق فروعا وقنوات ليصل بمياهه إلى أراض لم يبلغها من قبل، فيصير البستان بساتين.
ولبعض الفنانين قيمة أكبر تتجاوز تلك الإضافة التى يضيفها حين يصبح وجوده فى ذاته قيمة أكبر من فنه، حين يصبح لوجوده معنى مهم للفن ولقيمة الفن.. يمكن معرفة هذا المعنى باستدعاء فنان كبير مثل عادل إمام، لأنه بخلاف إضافته لفن التمثيل، وبخلاف مسيرته العظيمة كفنان، استطاع عبر اختياراته الفنية من جهة وعبر تصريحاته ومواقفه من جهة أن يكون ممثلا للقيمة العليا للفن، الفن فى عمومه، خصوصا فى السنوات التى انتشر فيها تيار عام من احتقار الفن ووصمه.
عادل إمام لم يختر العمل ممثلا لأنه يحب التمثيل مثل آلاف من الممثلين وآلاف من الذين يرغبون فى التمثيل، ولكن أيضا - وهذا هو الأهم - لأنه يؤمن بالفن وبالدور الذى يلعبه فى حياة البشر.. كان يمكنه أن يمثل ويعود لبيته زاهيا بالشهرة التى تزداد مع كل عمل، لكنه لم يسمح لنفسه بالاكتفاء بهذا الزهو طالما هناك فى السراديب أبواق تحقر الفن وتحقر الفنانين، لم يضيع أية فرصة للدفاع عن الفن، فى تصريح، فى خطاب، فى لقاء تليفزيونى، لم يفوت فرصة للاشتباك مع هذا التيار ثقيل الظل الذى يحرم على الناس حياتهم واستمتاعهم بالحياة، لم يغب عن أى مشهد من مشاهد المعركة التى دارت بين ممثلى القيم المدنية وممثلى القيم القبلية، حين احتدمت المعركة كان إلى جانب فرج فودة، وبعد اغتياله قرر تقديم سيرته فى عمل سينمائى قدم فيه شخصية الإرهابى ليفحصها من الداخل ويكتشف السياق الذى ينتجها، فى وسط معركة الدولة مع الإرهاب قرر السفر بفرقته إلى معقل التيار المتشدد، وأصر على عرض مسرحيته فى أسيوط، رغم التحذيرات الأمنية ورغم التهديدات التى طالته ورغم أنه كان على قوائم الاغتيالات التى وضعها المتطرفون.
عادل إمام ممثل عظيم، لكن المعنى الذى يمثله أكبر من ذلك، فهو مثقف عضوى بالمعنى الحقيقى، يشتبك مع كل قضية من قضايا عالمه، وعبر عدد كبير من الأفلام كان صوت المهمشين والناطق باسمهم، لكنه على عكس الذين يختارون مثل هذه الموضوعات لمغازلة «الجماهير» لتحقيق شهرة سريعة زائفة اختار أن يكون صوت الجماهير وهو على مسافة منها.. يعبر عن المهمش لكنه لا يتماهى معه ومع قيمه، لأنه كمثقف يعرف أن مساندة المهمش تحتاج لانتشاله من أخلاقيات التهميش التى فرضت عليه، لانتزاعه من الخطاب الدينى المتشدد.. يرى المهمش نفسه فى أفلام عادل إمام ويسعد بأن صوته صار مسموعا لكن فى الوقت نفسه ينتبه إلى حقيقة أنه غير برىء تماما، وأنه فى حاجة لتغيير قناعاته.
فى فيلم «الحب فى الزنزانة» مثلا والذى قدمه بداية الثمانينيات نرى صلاح بطل الفيلم شخصا مهمشا فقيرا لا يجد فرصة للحصول على المال إلا بالاعتراف بجريمة ارتكبها أحد الفاسدين، لكنه فى السجن يعرف طريقه للحب، ويكتشف أن السعادة التى وجدها فى الحب «قيمة معنوية» لا يمكن تعويضها بالمال «قيمة مادية».. عملية تهميش شاب مثل صلاح تمت بسيطرة القيم الاستهلاكية، وبنظام وحشى من رأس المال الفاسد، وكان أمام صلاح إما التماهى مع هذا النظام وإما كسر حاجزه وعدم تدعيمه بالاستسلام له.. انتصار الحب فى النهاية يمثل نجاة البطل أكثر من شعور الانتقام الذى سيطر عليه، هذا مثال للفنان الذى يعبر عن الجماهير دون مجاملتها ومغازلتها والإذعان لها، كان يمكنه ألا يقف إلى جانب حرية التفكير وحرية التعبير وأن يغازل الجماهير بدعاوى السينما النظيفة، لكنه اختار أن يدعم الجماهير بمصارحتها، وهذا هو المعنى الحقيقى لوجود عادل إمام فى تاريخ الفن المصرى العظيم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة