د. شوقى عبدالكريم علام

إصلاح ذات البين

السبت، 30 مارس 2024 09:00 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

إنَّ من أرقى ما جاء به الشرع الحنيفُ فى سياق نشر السلام وتعمير الكون وصيانة العلاقات الإنسانية: أنه حثَّ الناس جميعًا على حفظ الأخوَّةِ الإنسانية، وإزالة كلِّ ما يكدِّرُ صفْوَها، ويهدِّدُ استقرارَها، وبيَّن أن هذا الإخاءَ والتآلفَ نعمةٌ أنعم الله بها على عباده، فقال تعالى: «وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا»، ومن هذا المنطلق حَرَصَ الإسلامُ على وحدة المسلمين وأُخُوَّتِهم، وأمر بالإصلاح بينهم إذا تخاصموا واختلفوا؛ قال تعالى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا»، ثم قال فى الآية التى تليها مؤكِّدًا ضرورةَ السعى فى إصلاح ذات البين: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ».


وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى فضل الإصلاح بين الناس: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟» قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «إصلاح ذات البين» وفى روايةٍ أنه زاد على ذلك فقال: «فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ البَيْنِ هِيَ الحَالِقَةُ، لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ»؛ فكأنه صلى الله عليه وسلم ينبهنا إلى أن فسادَ ذاتِ البَيْنِ مَهْلَكَةٌ للمجتمع تستأصل منه الدِّينَ وتنزِعُ عنه الأمن، أما إصلاحُ ذاتِ البَيْنِ ففيه قوةُ المجتمعِ واتحادُه وعدمُ تفرُّقِه.


وقد كان من هَدى رسول الله صلى الله عليه وسلم السعى فى الإصلاح بين الناس، ومن ذلك أنه ندب أصحابه إلى الذَّهاب معه للصلحِ بين أهل قُباء حين تنازعوا حتى كادوا يقتتلون فقال: «اذهبوا بنا نصلح بينهم».


وقد مدح الله الذين يسعَون فى إصلاح ذات البين، واعتبر سبحانه أن نجواهم وحديثهم من خير الكلام، لما يترتب عليه من الخير والبر، فقال تعالى: «لَا خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ».


وعلى الصعيد الأُسَرى: حث الإسلام على احتواء أية خلافات تنشأ بين الزوجين؛ حفاظًا على البيت والأسرة والأولاد، وترسيخًا للمودَّةِ بين الزوجين، فقال لأهلهما ومعارِفهما: «وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا».


بل إن الإسلامَ تغاضى لأجل تحقيق الصلح بين الناس عما قد يُضْطَرُّ إليه المصلحون من الكذب على طرَفى النزاع، لتأليف القلوب وتسكين ثورةِ الغضب، ففى الحديث الشريف: «لَيْسَ الكَذَّابُ الَّذِى يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، فَيَنْمِى خَيْرًا، أَوْ يَقُولُ خَيْرًا»، وهذا يعنى أنه إذا اضطُرَّ المصلحُ بين الناس إلى أن يكذب من أجل أن يزيل الشحناء والبغضاء من قلوب المتخاصمين، ويجمع بينهم فى الخيرِ فلا حرج عليه.


وإن الشريعة الإسلاميةَ ما تركت شيئًا يزيدُ من ترابط الناس وتآلفِهم إلا جاءت به وحثت عليه؛ فأمرت بحسن الظن، وإفشاء السلام، وصلة الأرحام، وأعلت من شأنِ الحب فى الله، وحسن الجوار، وطلاقة الوجه، والعفو والمسامحة.


وما تركت شيئًا يسبب العداوة والبغضاء بين الناس إلا منعته وسدَّت السبل إليه؛ فحرَّمت الهمز واللمز، والسخرية والتنمُّر، والظلم، والغش، والخديعة، والسباب، والتقاتل.


وفى عصرنا هذا: تتأكد أهمية السعى لإصلاح ذات البين؛ لأنه السبيل الأجدى لاستدامة التماسك بين أفراد المجتمع وفئاته المختلفة.


وقد وفَّق اللهُ تعالى دارَ الإفتاء المصريةَ إلى استحداثِ إدارةٍ مخصوصةٍ للصلح بين الناس وهي: «إدارة فض المنازعات»، التى تعمل على الإصلاح بين المتخاصمين، والتوفيق بين أطراف النزاع بما يحفظ حقوقهم جميعًا، والترغيب فيما أعدَّه الله تعالى من الأجر لمن عفا وأصلح، وصدق الله العظيم إذ يقول: «فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ».







مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة