حازم حسين

مأساة غزة وملهاة مجلس الأمن.. بايدن وإدارته بين الهوى والهوية وعبء النفاق

الإثنين، 25 مارس 2024 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

ظاهر القصّة أنّ الولايات المتحدة عدَّلت موقفَها من حرب غزّة، وصارت أكثر صدودًا عن الدم وإقبالاً على التهدئة. ومن أجل تغذية دعايتها الجديدة راحت تُسقِط المساعدات على شمال القطاع، وبشَّرت ببناء رصيفٍ بحرى لهذا الغرض، وأخيرًا طرحت مشروعَ قرار فى مجلس الأمن، ثمّ وقفت تتباكى على فشلها فى تمريره، بالطريقة نفسها التى أفشلت بها ثلاث مُحاولات سابقة. والآفةُ الأمريكية ليست فى التناقض فحسب؛ إنما أنهم يتبنّون خياراتٍ مُتعارضةً، ويطمعون فى تسويقها دفعةً واحدة، على كل ما فيها من عوارٍ وانقلابات داخلية مُتسارعة. والأنكى أنهم يُظهِرون الهشاشةَ أمام القاتل، ويستعيرون صورةَ البأس فى مُواجهة الضحايا.

طُرِحَت المُسوَّدة للتصويت مساء الجمعة؛ ولأنها خرجت مُحمّلة بكلِّ أمراض البيت الأبيض فى مُقاربته للمحنة منذ بدايتها؛ سقطت سُقوطًا مُدوّيًا بامتناعٍ وثلاثة اعتراضات، منها فيتو روسيا والصين. وبينما تزامن التصويت مع حضور وزير الخارجية الأمريكى لمجلس الحرب فى تل أبيب، خرج بعده ناعتًا الرافضين بالخُبث، وأكملت مندوبةُ بلاده فى الأُمم المتحدة، ليندا توماس جرينفيلد، بالقول إنه «موقف دنىء» ويُهدِّد ورشة التسوية التى ترعاها واشنطن مع القاهرة والدوحة، على زعمها. ثمّة مُفارقة يُؤكّدها الأعضاء الدائمون، مفادها أنّ الصيغةَ المعمول بها لا تُحقّق أىَّ مستوى من النزاهة، وتتركُ البيئة الدولية فريسةً تتخطّفها أيادى من يحملون بطاقات حقّ النقض. وبعيدًا من فحوى القرارات؛ فإنه لا فارق بين التسلُّط الأمريكى سابقًا، والتعطيل الروسى الصينى مُؤخّرًا؛ إذ المعنى أن الإرادة الأُمميّة حبيسةُ دائرة من خمسة أطراف، ولا اعتبار للقانون والمواثيق والاستقامة الأخلاقية خارج لعبة النزاعات الضيّقة؛ فالفرصة الوحيدة لتفعيل مجلس الأمن أن يتلاقى حُكّامه الكبار على رؤيةٍ واحدة، ومن دون ذلك فالنزيف مُتّصل بلا انقطاع؛ أكان ذلك دعمًا للصهاينة أو إشفاقًا على الفلسطينيين.

وضعت إدارة بايدن ورقةً مَعيبة تمامًا. دارت خلاصتُها فى سياق إدانة حماس حصرًا، ثمّ الحوثيين وتوترات البحر الأحمر، مُقابل خطاب عاطفى عن المساعدات والتهجير وعدم تعريض المدنيين للخطر. هكذا بعد قرابة ستة أشهر لم تنسَ الولايات المتحدة «طوفان الأقصى»، وتستميت فى وصف المقاومة بالإرهاب إحياءً لذكرى أقل من 1200 قتيل، ثبت أنّ أغلبهم قُتِلوا بصواريخ المُقاتلات والمُسيَّرات الإسرائيلية؛ لكنها تكاد لا ترى مائة ألف شهيدٍ وجريح فى غزّة، نحو ثُلثيهم من النساء والأطفال، وبالتبعية لا تُدِين آلةَ القتل التى استحلّت دماءهم، ولا تدعو طبعًا إلى وقف المقتلة ومُحاسبة المُتسبِّبين فيها. ومن هنا يُفهَم اعتراض الجزائر، ويصير تبنّى روسيا والصين لرؤية المجموعة العربية منطقيًّا ومشكورًا، وتتجدّد الأسئلة الجارحة إزاء رعونة الإدارة الأمريكية، وتشوُّه موقفها السياسى والعسكرى على مستوى القيمة والخطاب والممارسة؛ إذ صارت شريكًا أصيلاً فى المحرقة المُدَارة ضد الأبرياء العُزّل؛ بينما تستمرئ حالةَ الخداع لتطرح نفسها وسيطًا نزيهًا، ثمّ ضامنًا بمقدوره تجفيف الهواجس وتوزيع التطمينات على كلّ الأطراف.

ما من شَكٍّ فى مبدئية الحلف الصهيو-أمريكى وصلابته. بالتاريخ كانت واشنطن طرفًا مُباشرًا فى المحنة منذ قرار التقسيم وما بعده، وبالواقع لا يُخفى الرئيس الحالى ميولَه الصهيونية الحاكمة لحركته فى مجال الصراع؛ حتى أنه لا يرى مشروطيّةً تمنعه من أن يكون مسيحيًّا وتوراتيًّا فى الوقت نفسه، ويعتبر إسرائيل قضاءَ الضرورة الذى لو لم يكُن موجودًا لاخترعوه؛ رغم أنهم أنشأوها من العدم فعلاً. وقد يذهب البعض إلى التفسير السهل على أرضية الانتخابات، وأنّ الديمقراطيين يخشون من خسارة اللوبى اليهودى؛ لا سيما أنّ المُنافس الأبرز «ترامب» شديد الراديكالية فى تلك النقطة. ولكنّ سوابق العجوز بايدن منذ شبابه تقول العكس، فالسيناتور الذى زار القاهرة فى مخاض حرب أكتوبر، والتقى جولدا مائير لطمأنتها قبل ساعات من العبور؛ لم يكن فى مُنافسةٍ رئاسية أو يخشى من مكر الصناديق.. غايةُ الأمر أنه جندىّ برابطة عُنق فى جيش الدفاع، وما الوفود المُتتابعة والخُطَب البيضاء إلّا أسلحة رديفة، لا تختلف كثيرًا عمّا يضُخّه من عتادٍ وقذائف فى شرايين الاحتلال.

أقربُ التوصيفات أنها لعبةُ توزيع أدوار. والهدف الوحيد سرقة الوقت وتأمين ظَهر المفارز الهجومية بالسياسة والقانون. ولا قيمةَ لأن يهبط «بلينكن» على المنطقة ستّ مرات، أو تُسَرَّب تقارير مُلوّنة عن احتدام الخلاف بين نتنياهو والبيت الأبيض، ثم يستقبل الأخير عضو كابينت الحرب بينى جانتس دون تنسيقٍ مع رئيس حكومته، ويتبعه وزير الدفاع يوآف جالانت فى زيارته التى بدأت أمس. كلّها مُفردات من أجل الإلهاء لا أكثر، بالضبط كما كانت إسقاطات المساعدات الأمريكية التى قتلت المدنيين قبل أن تُطعمهم، أو مشروع الميناء الذى رحّبت به إسرائيل، فى إشارةٍ إلى تلاقيه مع أهدافها لخنق وكالة الغوث «أونروا»، وتأمين مساراتٍ مستقبلية لإنجاز خطّة التهجير القسرى أو الطوعى. أمَّا حقيقة أنه يحتاج ثمانية أسابيع على الأقل لتشغيله؛ فإنها ترفع فكرةَ المناورة فوق معنى التحرُّك الجاد، ولا تجعل أمريكا شريكًا مُتضامنًا فيما وقع حتى الآن فقط؛ بل إنها ربما تكون المسؤول المباشر عما يُدَبّر للقطاع اليوم وفى المستقبل.

يقف بايدن كأىّ مُمثّل بائسٍ ومغمور؛ رغم كل ما لديه من أوراق ضغط وتأثير. يُمرّر الرجلُ دراما اليمين القومى والتوراتى فى تل أبيب بلا هوادة، ويحاول الإيحاء بالعجز عن ترويض ذئاب الصهيونية المجنونة، وبالتوازى يُسوِّق أكذوبةَ أنه راعٍ أمين على حملان فلسطين الجريحة. والمطلوب أن يُعاين العالمُ طوفانَ التخليق والتناقضات ويُبدى القبول والاقتناع: حديث عن إبعاد المدنيين عن النار تُرافقه صفقات تسليح وشحنات ذخائر لا تنقطع، وإفساد لمشروعات قوانين مُتوازنة يتبعه طرحٌ لبديل مُشوَّه ومَعيب، واستئساد عند باب المندب تُقابله وَداعة على سواحل غزّة، ويد طُولى ضد الميليشيات فى سوريا والعراق لا تتناسب مع النسخة الداجنة الأليفة أمام نتنياهو وعصابته النازية.

وصفت روسيا المُسوَّدة الأمريكية المطروحة على مجلس الأمن بالخطابة العاطفية، وأنها تبيع الوهم تحت لافتة «الحتمية» دون النص على قراراتٍ وإجراءات واضحة. والواقع أن بعثة بايدن ما أرادت من مشروعها إلَّا إدانة حماس، والخروج بمهلةٍ جديدة يصير العدوان فيها شرعيًّا ومَحميًّا بأعلى سُلطة أُمميّة؛ إذ الوقوف المُحايد أمام الحرب الدائرة لا معنى له إلَّا أنها مقبولةٌ فى الرؤية الإجمالية، وما دون ذلك تفاصيل تحتمل الجدلَ بشأن تناسُب القوّة وأعداد الضحايا. وما يُثبت سوءَ النيّة بحقّ الأمريكيين أنهم وضعوا العصىّ فى دواليب المجلس خلال اليوم نفسه، وعلى عادتهم الأثيرة. وكانت الدول المُنتخَبة E10 قد طرحت بديلاً وطلبت التصويت عليه الجمعة؛ فضغطت «جرينفيلد» وفريقها لتأجيله إلى السبت، ثم أُرجئ ليوم الاثنين، والمُتوقَّع أحد أمرين: أن تدخل عليه تعديلاتٌ تُشوّه مضمونه، أو يسقُط بالفيتو اللامع فى شعلة تمثال الحرية مع أقرب جلسة تصويت. وقد فعلوها من قبل مع مُسوّدات مشاريع للبرازيل والإمارات والجزائر.

فى المقابل، تبدو مُفاوضات الهُدنة مُتعثّرة. إسرائيل تتشدَّد فى رفض الوقف الدائم للقتال، أو الانسحاب خارج القطاع أو من محاوره الرئيسية. والمُرونة التى أبدتها الفصائل فُهِمت على معنى الضعف والاضطرار، ما عزَّز ثقة نتنياهو فى استراتيجيته المُنحازة للتفاوض تحت النار. صحيح أن بعض مواقف القسَّاميين تقبلُ النقدَ وإثارةَ التساؤلات، لا سيّما لجهة الخلاف بين الخنادق والفنادق، والبقاء على حال الانقسام دون جدّية فى تجسير الهُوّة مع الضفّة ومُنظّمة التحرير، وكذلك استمراء الإغراق فى لعبة المحاور والتقاطع مع ميليشيات الممانعة فى الإقليم؛ لكن المسألة صارت تتجاوز القوى القديمة فى غزّة، وتخصُّ الكُلفةَ الإنسانية والأخلاقية الباهظة التى يدفعها المدنيون، وسيُعانى العالم بكامله آثارها وانعكاساتها القاسية لعقودٍ مُقبلة. والثابت اليوم أنه لا حماس على حالها السابقة، ولا إسرائيل بمقدورها الحلول مُجدَّدًا فى القطاع، بالاحتلال أو بإغراء العشائر على غرار تجربة روابط القرى. وبقاء الولايات المُتّحدة عند عُقدة الخلاص من الحركة، مع علمها باستحالة ذلك بقدرِ صعوبة أن تعودَ لسابق عهدها، لا يُمهِّد الأرضيّةَ لحلٍّ عاقل ومنطقى بالضرورة، والأهم أنه يُلطِّخ وجه بايدن وإدارته بأكثر ممَّا تَلطَّخ من الصفقات المشبوهة فى المنطقة، ومن وَضاعة الأدوار الوظيفية فى خدمة دولة استيطانية دموية ومارقة.

تحملُ واشنطن رخاوةَ موقفها على عنوان التبجُّح وإنكار الجميل من جانب نتنياهو. ويصعُب افتراض فكرة التحدّى من دون تنسيق، على الأقل لناحية أن لدى الولايات المتحدة أوراقَ ضغطٍ لا حصر لها. وأكثر التفسيرات منطقية أنها تفاهمات مقبولة من الطرفين؛ سواء لغَلبة الهوى الصهيونى، أو لنفاذ تل أبيب لعقل الإدارة ودولاب المُؤسّسات الصلبة، وفى الحالين تقع الإدانة على كاهل بايدن. لقد شقَّ مسار خنق الغزّيين عندما أوقف تمويل «أونروا» بشُبهةٍ اختلقتها إسرائيل بحقّ 12 من نحو 13 ألف موظف، وتشدَّد ثم لانت لهجتُه ولم يختلف إيقاع التدفُّقات العسكرية، فتجاوزت 100 شحنة منذ الطوفان، وباعت للإعلام وجولات الدبلوماسية المكوكية حديثًا إنسانيًّا بليغًا، ثم دافعت عن الصهاينة أمام محكمة العدل الدولية مرتين خلال شهر واحد. والخلاصة أن إسناد الاحتلال لا يهتز، وهُم لا يملّون من تجارة الأوهام، وما يبيعونه للمُتألّمين أقرب للمُسكِّنات الموضعية، وما يواجهون به القتلة لا يتجاوز العتاب الرقيق؛ لتلطيف الانتقادات الدولية والإيحاء بتوازُنٍ زائف.

ما بين مأساة غزّة المفتوحة، والملهاة المُتكرّرة فى مجلس الأمن، تتكثَّف المعضلةُ فى واشنطن لا فى أرض فلسطين. أوّلاً لانحياز الإدارة، وثانيًا لتعطيل المرافق الأُمميّة عن تفعيل أدوارها. من السطح يبدو خطاب بايدن على مسار التحسُّن، وفى العُمق تبقى الأفعال على حالها. ولا يمكن تجاهل الدلالة فى وقوف جوتيريش أمام معبر رفح للمرة الثانية منذ العدوان، ورسائله الكاشفة بشأن فداحة الأوضاع الإنسانية وغُلوّ المُمارسات الإسرائيلية؛ فلولا تعطّلت فاعلية الأمم المتحدة ما اضطر أمينُها إلى تسويق رؤيته بالعاطفة والجولات الحيّة بدلاً من طرحها فى إجراءاتٍ وتدابير عملية. ربما الأولوية الأسمى لوقف النار؛ إنما لا قيمة للهُدنة من دون ترسيخ حالة رَدعٍ تُغلق بابَ المغامرة وتمنعُ تجدُّد المقتلة قريبًا، وشرط ذلك حلحلة الانسداد بحثًا عن تصوُّر للحل للمُستدام، وخروج واشنطن من تناقض الهوية المدنية مع الهوى الصهيونى وإدمان النفاق، ومن محاولة تسويق إسرائيل بلدًا ديمقراطيًّا توراتيًّا نازيًّا فوق المُساءلة دون شعورٍ بالخلل، وبمُكابرةٍ فى الاعتراف باستحالة التوفيق بين التحضُّر والقوميّة الإلغائية الجارحة. لن يكون سقوط مشروع القرار الأمريكى آخرَ المطاف؛ والأخطر الذى يجب أن تستوعبه واشنطن أنّ صورتها تسقُط أيضا، مع كلّ مسوّدة ساقطة تصيغها لخداع العالم، وكلّ فيتو مُنحط ترفعه على جثث النساء والأطفال وبطون الغزِّيين الخاوية.







مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة