حازم حسين

سحر الدراما يغلب سحرة الأُصولية.. عن "الحشاشين" والسباحة إلى منابع التطرف

الأحد، 17 مارس 2024 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
يمضى التاريخُ ولا تنقضى مفاعيله. فاللحظةُ الراهنة حصيلة طبخةٍ مُتجانسة المقادير من لحظاتٍ شتّى، والأفكارُ تتناسل وتتداخل؛ فلا تموت فكرةٌ قديمة كما لا تتأتَّى أُخرى جديدة من العَدَم. وإذا كان الأُصوليّون المُتطرفون مثلاً يمضغون رواياتٍ جوفاء عن العقيدة والفقه؛ فإنهم على الأرجح يُعيدون إنتاج إرثٍ عتيق، بالحذف أو الإضافة والتحريف، وعلى هذا المعنى لا يستقيم الوقوف أمام الخطاب الدينى واعتلالاته وقوفًا سليمًا، من دون العودة به إلى جذوره الأولى، والحفر فى طبقات التأسيس التى بُنِيت عليها كلُّ قاعدةٍ مذهبية، وما أخرجته من فلسفةٍ روحية وهياكل حركية، وقد تتداخل المذاهب فى مساحاتٍ وسيطة، أو يصلح أحدُها لتفسير الغامض فى الآخر، وهنا لا تكون مُقاربات الاستكشاف أو النقد تتبُّعًا وثائقيًّا، لناحية رصد الأزمان والحوادث بعين المُؤرِّخ، بقدر ما هى تفتيشٌ عن المشتركات بعقل الفيلسوف الناقد، واستجلاءٌ للقانون المُجرَّد تحت جِلد كلِّ تجربة؛ مهما بدا فى الظاهر أنها تجاربُ صراعيّة، وبينها من الشِّقاق والاحتراب ما ينسف أىَّ تصوُّرٍ عن المُشاكلة واستنساخ السياقات، وصلاحية الأمراض الوراثية للانتقال بين الجماعات والتيَّارات، رغم تباعد السلالات واختلاف الخرائط الجينية.
 
لطالما كانت جماعةُ الحشَّاشين لُغزًا مُحيّرًا بين كثيرٍ من ألغاز التاريخ الإسلامى. وفى الزمن الراهن قد تبدو هيمنةُ بعض الحركات الرجعيَّة على أتباعها من الغرائب أيضًا. والدخول إلى النطاق المُثير بين الحكايتين يتجاوز بالضرورة مسألةَ التأريخ، من حيث هى وقائع وشخصيات، وينشغل فى المقام الأول ببِنية الخطاب وعناصر قوَّته، وما يُوظِّفه من أدواتٍ يتحايلُ بها على العقل، ويُؤسِّس من خلالها لإمكاناته فى التجنيد والحشد والتأثير العاطفى. ولأنَّ الدين يعمل بطريقةٍ واحدة تقريبًا، وتتقدَّم فيه الميتافيزيقيا على المادة والمنطق التجريبى؛ فإن تمايزات الفِرَق تنحلُّ وتذوب عندما يتَّصل عملُها بالغاية الوظيفية، أى باستمالة الجماهير وإقناعهم وتوجيه إراداتهم. على السطح تبدو أطيافُ الإسلاميين مُميزّةً بألوانٍ صارخة؛ لكنها فى العُمق تتَّخذ كلُّها لونًا واحدًا. وبينما يلعبون على أُكذوبة التنوِّع فى سباقهم إلى الشعبية والمنافع، أو فى هروبهم من وَصمة التطرُّف ونفور الناس؛ فإن الباحث عن منظومة العلاقات الخفيَّة لن تُلهيه الدعاياتُ الخفيفة، وسينفُذ بالضرورة إلى قاعِها المُشترك، حيث تتلاقى مُدوَّناتٌ ومشارب بينها ما صنع الحدَّاد، وطموح كلِّ واحدٍ منها أن يزيح البقيَّة لينفرد بالساحة؛ لكنهم كانوا وما زالوا يلبسون أقنعةً مُتطابقةً ليُمثِّلوا أدوارًا مُتباينة، ورهانهم أنّ المُشاهدين لم يضعوا أياديهم على الخدعة.
 
العُقدة تخصُّ ذهنيّة التلاعب بالمُقدَّس لأهدافٍ دنيوية، تنتمى لأصحابها حصرًا وليس لمجال الاعتقاد العام. والاستعصاء الذى كان قائمًا أنّ التنويريِّين تورَّطوا فى لعبة التقسيمات المُضلِّلة، وتَبعهم العوام بالضرورة. لذا فأخطرُ ما يُهدِّد الفكرةَ الأُصوليّة بتنويعاتها أن تمتدَّ يدٌ لتفُضّ الأختام، وتفتحَ خزائن الأسرار، ثمّ تعرض البضاعةَ المَعيبة على المؤمنين؛ فيتبيَّن أوّلاً أنها ليست ثمينةً كما قِيل، وليست صالحةً للتداول مثلما يُبشِّر مالكوها وتُجَّارها. هكذا يُمكن أن نفهم لماذا لا تُرحِّب بعضُ التيارات بتحقيق تجربةٍ دراميّة مُتقدِّمة عن «الحشاشين» وزعيمهم حسن الصبَّاح، وأن يرتعدوا من الربط الشرطى الذى ستفرضه الحكايةُ على أذهان المُتلقّين؛ حتى دون الإشارة له أو الإلحاح عليه بقصدٍ من صُنّاع العمل. إنك لو كشفت سرَّ الساحر ستنتهى فاعليةُ خدعته، ولن تعودَ قادرةً على الصمود ومُراوغة الأبصار؛ سواء قدَّمها هو، أو جاءت من حُواةٍ آخرين.
 
كان مُتوقَّعًا أن يتعرَّض مسلسل «الحشَّاشين» لهجومٍ حاد. ولعلَّ رهان التجربة مشروطٌ بأن تُصيب أكبادَ خصومها؛ إذ لو مرَّت بهدوءٍ فمعنى ذلك أنها لم تجرح عصبَ الرجعيّة المقصود، ولم تُفتِّح عيونَ المسحورين على منظومة المكر والتضليل.. بدأ الاستهدافُ من جماعة الإخوان ولجانها، ثمّ التحقت بهم مجموعاتٌ من تيَّاراتٍ راديكالية أُخرى، وبأثر سيكولوجية القطيع وآليّة «كُرة الثلج» دار الكلامُ ليجتذبَ الأقلَّ وعيًا والأكثر تشدُّدًا من مُستخدمى المنصّات الرقمية. وإلى الآن لم تُطرَح ملاحظاتٌ نابعة عن منهجيةٍ أو معرفةٍ فنية؛ بل كلّها انتقادات خفيفة غرضُها إثارة اللغط، وصَدّ الأفراد عن المُتابعة، أو بناء حاجزٍ نفسى يحول دون تأثُّرهم بالمحتوى. وقد انحصر نصفُ الكلام فى مسألةٍ شكلانية عن لُغة الحوار، وضاعت بقيّته فى مُقارنات ساذجة بين الروايات المكتوبة والوقائع المُنتخَبة لاستكمال المعمار الدرامى؛ كأنهم يُريدون التستُّر وراء نزاعات المُؤرِّخين، وإسقاط جِسم الحكاية المادىّ لصالح متاهة التواريخ والشخصيات والمواقف، لا سيَّما أن حسن الصبَّاح وطائفته من الموضوعات التى يندُر فيها الاتفاق وتزدحمُ الخلافات.
 
قال المُهاجمون إنّ بعض الأحداث غير ثابتةٍ تاريخيًّا، وانتقدوا اعتماد اللغة المصرية «العامية»؛ بدعوى أنها ليست لسانَ الشخصيات فى زمانها، كما لا تليق برصانة القصَّة وطابعها شِبه الدينى. والواقع أن المسلسل ليس درسًا فى التاريخ، ولا يهتمّ بأن يكون، كما لا يُقدّم نفسَه مُنظِّرًا فى اللسانيات أو مشغولاً بفَضّ التشابُكات القديمة بين العربية ولهجاتها، وما تفرَّع عليها من أبنيةٍ لها سَمْتُ اللغة وبنيانها الكامل.. ورغم أن العمل يحمل اسمَ الطائفة، ويتصدّره مُؤسِّسها وزعيمها المُهيمن، فإنّ حضورَهم ليس مطلوبًا لذاته، ولا تنتهى المهمَّة باقتفاء أثر الفئة المُنحرفة وكَشف دقائقها؛ فالأرجحُ أنها تحضُر بوصفها حاملاً للرواية، وعَونًا على غرضٍ أكبر من التثقيف المعلوماتى والتسلية الآتية من كهوف الماضى المُظلمة.
 
يعرضُ «الحشَّاشين» لماهيّته منذ أول لحظة؛ باعتباره حوارًا مع التاريخ لا حديثًا بلسانه. بمعنى أنه يستلهم عناصرَ الحكاية الأساسية؛ ليُقدِّم سرديَّتَه التى تقتفى الأثرَ قبل الحركة، والأفكارَ قبل الأشخاص، وتسعى لإنجاز قراءةٍ نقدية للتجربة فى حواضنها، وبمادّتها ومَنطق عصرها. وفى مُفتتَح «التتر» يُذيّل العنوان بعبارة «أباطيل وأبطال.. من وحى التاريخ»، ما يشى بأنه يُولى الاهتمام الأكبر لمسألة الانحراف العقائدى والحركى، والبطولات الروحية والمادية التى شهدتها المرحلة المُلتبسة؛ وإذ يتطلَّع لاستخلاص جوهر القانون الذى أنشأ الخللَ ويُهدِّد بتكراره المُحتمَل دائمًا؛ فإنه لا يخوضُ حربًا مع «الصبَّاح» ومقاتليه، ولا أية عُصبةٍ أخرى؛ بل يتلصَّص بهدوءٍ على غابة السرديَّات المُتضاربة، والتأويلات المُلوَّنة بحسب أهواء أصحابها القدامى، وينتخب من كلِّ ذلك ما يُعينه على بناء سياقٍ يُتيحُ الاقترابَ دون مُطابقة، والانفصالَ دون قطيعة، ورَسم بورتريه يُعبِّر عن الحقبة المرصودة كما لو أنه لَقطةٌ فوتوغرافية، وفى الوقت نفسه ينفصل عنها كأنَّ لا رباطَ بينهما؛ فتصيرُ المُعالجة تفكيكًا للأصل فى بيئته، واشتباكًا مع الفروع، اليوم وغدًا، وإلى ما شاء الله.
 
وفى شِقّ الحوار؛ فالأمرُ أعقد.. إنَّ اللغةَ مُجرَّد وعاء للفَهم، ولها وظيفةٌ تداوليّة يومية، هى ما يُحدِّد قيمتَها وكفاءتها. وإذا كانت الفُصحى تُهيمن على دولاب الدولة؛ فإن ذلك ممَّا يقعُ فى نطاق الازدواجية لدى الأفراد. يتحدَّثُ الناسُ بلسانٍ جامعٍ يُغطِّى معاشَهم ومعاملاتهم، ثمّ حينما يكتبون يستعيرون لسانًا بديلاً، لا يُجيدونه ولا يرتاحون فى استخدامه. أمَّا «العامية» فإنّ لها بنيانًا مُكتملاً كلُغةٍ مُستقلّة، بنَحوِها وصَرفها، وجُذور مُفرداتها المُتداخلة مع لُغاتٍ وثقافات عدّة، وطريقتها فى نَحت الكلمات وبناء الجُمَل واستخدام أدوات النفى، وغيرها. وحتى لو اعتبرناها لهجةً؛ فإنها تظلُّ مُختلفةً عن الأصل، ومُتفوّقةً عليه فى البساطة ويُسرِ التوصيل. وادِّعاء أنّ المَحكيّة المصرية تخصمُ من واقعيّة الأجواء ليس دقيقًا، فالحكايةُ فى أغلبها لم تكن بالعربية، وأغلبُ شخوصِها انتَموا بالأصالة للفارسيّة. والمهمُّ أنّ القصة نفسَها لو حُقِّقَت فى هوليود ستنطق بالإنجليزية، كما تحدَّثت كليوباترا وموسى والمسيح، وملوك العالم القديم شرقًا وغربًا، بلسان الأمريكيين، ولم تكن أمريكا وسُكّانُها ولسانُهم مَوجودين على زمن تلك الحكايات.
 
وظيفةُ اللغة أن تُحقِّق الاتّصال والاستيعاب، وشَرطُها المعياريّة وتطابُق الدلالات فى أذهان المُتحدِّثين. ولم تعُد الفُصحى تُحقِّق تلك الشروط فى أغلب بيئات العرب، بعدما انفصل الناس عنها وتعذَّر تطوُّرها مع الزمن. وافتراضُ أن النسخة الرسمية من اللغة أَقيَمُ وأرقى من نُسَخِها الشعبيّة؛ إنما يُعبِّر عن سلفيّةٍ عقيمة ومُتطرّفة، لا تختلفُ كثيرًا عمَّا فى ثوابت الحشَّاشين من عُقمٍ وعنف.. يتجاوزُ الأمرُ مُستوى الاختلاف على الحوار؛ مُعبِّرًا عن ذهنيّةٍ اختزاليّة تُمارس الوصايةَ على الناس بسُلطةِ القاموس، كما يُمارسُها تجَّار الاعتقاد بسيف الفقه ورمزيّة العمائم.. إنَّ الداعين لأن تكون الدراما بعيدةً عن مُتناول الجمهور؛ حتى عندما تُناقش مُشكلاتهم أو تسعى إلى تنويرهم؛ إنما يُغذِّون حالةً من الكهنوت الإسلامى المُخترَع. صحيح أنَّ ظاهرَ الموضوع الاعتراضُ على المسلسل، ومحاولة وَصْمه وتشويهه؛ إلَّا أن المعانى المُضمَرة فيما وراء ذلك تظلُّ مُعبّرةً عن العقليّة الأُصوليّة التى تستعرضُها الأحداث؛ فكأنَّ المُهاجمين يُعزِّزون رسالةَ العمل ويُؤكِّدون منطقَه؛ من حيث أرادوا مُحاربتَه والانتقاصَ من قيمته.
 
قصّة الحشَّاشين خلافيّة فى كُتب التاريخ، ولا إجماعَ على شىءٍ من تفاصيلها، أو حتى شخصيّة مُؤسِّسها وحياته. الثابتُ الوحيد أنهم انحازوا لطرفٍ فى صراع السلطة، وفتحوا بابًا للاغتيالات السياسية، وكان «الصبَّاح» يتسلَّط على عقول رجاله كأنه سَحَرهم.. بعيدًا من الخطوط العريضة، يحقُّ للدراما أن تملأ الفراغات، ولا قَيد عليها طالما لم تدَّعِ أنها تُمارس التوثيق. وهكذا فقد تدرَّجت مُعالجةُ الحلقات الأُولى بين التأسيس للشخص والطائفة بالتوازى، وإبراز قُدرات الرجل ومهاراته العقليّة والمعرفية، مع إشاراتٍ ذات طابع ميثولوجى، مثل مبايعة الشيطان أو مُداواة والدة الخليفة، لا لأَسطَرتِه أو إخراجه من طبيعته البشرية؛ إنما للتعبير عن أثر خطابه المُغلَّف بقُدسيّة النصّ فى استلاب وَعى التابعين؛ كأنه سحرٌ أو عمل علوىّ. والصورة الضدّ عندما كان يقرأ رسالة الكندى عن الرياح على ظَهر المركب، ثم وقفَ ليُوهِمَ الجُندَ بأنه صدَّ العاصفةَ بتعاويذه. تسيرُ الحكاية على كلِّ السيقان: فقيه ومُحدِّث، ودجّال يسحرُ العيون، ومُتبحّر فى العلوم مُستفيدٌ بها فى الإقناع والتمكين. ليس الأمرُ تاريخًا كاملاً؛ إنما قراءة للتاريخ من واقع المآلات. بمعنى أن سيطرة زعيم الحشَّاشين على آلاف الأتباع كانت عملاً خارقًا، وإذ يغيبُ التبرير المُقنِع فلا بديلَ عن الغرائبيَّات، وهى إمَّا نتاج خداعٍ وتضليل، أو شعوذة وعَهد مع الشيطان؛ وكلاهما ضدّ منطق الدين، وفى صَميم التجارة الرخيصة بالاعتقاد.
 
للقصةِ أبعادٌ مُركَّبة؛ والحشَّاشون كطائفةٍ يختزلون فى تناقضاتهم كثيرًا من عناصر الصراع المُزمِنة عربيًّا وإسلاميًّا. لقد أتى الفاطميّون من المغرب، وصارت القاهرةُ مُرتكزًا بين منابعهم وبيئة تأسيسهم. «الصبّاح» من منظور التاريخ يُجسِّد مسألةَ الانقسام الطائفى وسَتر الأطماع السياسية بأغطيةٍ ثورية ومذهبية، وجغرافيًّا فإنهم يعكسون المُعضلةَ العميقة بين العرب والفُرس، وتتحقَّق فيهم العناصرُ الفكرية والحركية التى أنشأت كلَّ جماعةٍ لاحقة، من الصحوات إلى الإخوان والجهاديين والتنظيمات الإرهابية، والميليشيات التى تتَّخذ هيئة الدولة أو تنتزع إرادتها بسطوة السلاح. المنابعُ مُشتركة والعقليّة واحدة، والشيطان يتلوَّن ليصير إسماعيليًّا نِزاريًّا فى آلموت، أو سُنّيًّا مُخادعًا فى مكتب الإرشاد، أو بندقيّةً مُستأجَرة تحت شعار الممانعة فى لبنان وسوريا والعراق واليمن وغيرها.. وتفكيكُ القصّة إنما يتصدَّى للمدّ المذهبى تحت رايةٍ فارسية، وللانحراف العقائدى لدى الإخوان والدواعش، ويُعرِّى التشابهات فى مسائل الإمامة والطاعة وتحريف النصوص وادّعاء العصمة بمنطقِ الفِرقة الناجية. وهنا فإنَّ التاريخ أقربُ إلى استعارةٍ بلاغية، لكَسْر بَيضة التطرُّف التى تتشاركها التيَّارات المنحرفة والعنيفة بتلاوينها، وتفكيك سرديَّات التضليل واختطاف المُشترَك الروحى، سعيًا إلى تحرير جغرافيا البلاد وإعادة تحرير جغرافيا الاعتقاد، أى خلق التوازن بين النزعة الامبراطورية المُتخفيّة وراء عباءةٍ مذهبية، وكذلك النظر الجاد والمُعمَّق فى التراث ونصوصه وآليّات تعاطيه واستيعاب مضامينه.
 
المسلسلُ عملٌ مُهم؛ لناحية أنه يعودُ إلى واحدةٍ من أردأ تجارب الانحراف بالدين، ويربطُ السياقات بين الحشَّاشين القُدامى وأحفادهم الحاليّين، إخوانًا ودواعش وميليشيات مذهبيّة، ويُفتِّش عن مفاتيح الأُصوليّة لاختطاف الصغار ومحدودى الوعى. وفى ذلك لا يرفعُ الهجاءَ فوق المحاورة، ولا يضعُ الأحكامَ قبل الفحص والتسبيب، كما لا يُشيطنُ الصبَّاح، ولا يُقلِّل من قيمته وتأثيره؛ إنما يقول إنّ بعض البدايات المُضيئة قد تنتهى ظلامًا دامسًا، وقد يكون المرءُ عارفًا ومُتكلِّمًا لكنه صيَّادٌ للجُهَّال ومُتاجرٌ بالأرواح. وبجانب المضمون، أحرز الشريطُ رهاناتٍ بصريّةً وجماليةً عدّة، وقدَّم مستوىَ شديد التطوُّر والإتقان فى الديكور والملابس، وفى الصورة والمُؤثّرات، والتمثيل فى أغلبه سهلٌ مُمتع، وموسيقى أمين بوحافة حقَّقت الربط بين الشجرة التراثية وظلالها المُعاصرة. وأحفاد حسن البنا يعرفون حجمَ ما بينهم وبين حسن الصبَّاح من تشابه؛ فيخشون من أثر الرسالة، ومن عَرضها فى سياقٍ إبداعىّ جذَّاب ومُكتمل الدلالات.. هكذا كان الهجومُ المُنظَّم على التجربة قبل عَرضها، ومع العرضِ يومًا بيوم، وسيُكملُ لنهاية الموسم وما بعده.. المُتطرِّفون قد يتبادلون الكراهيةَ فيما بينهم؛ إنما إزاء خصومِهم من التنويريِّين والمُعتدلين يصيرون كيانًا واحدًا، ويُمارسون الأفعالَ نفسَها وإن بدت المرجعيَّات مُختلفةً ومُتصادِمَة؛ وربما لهذا ليس غريبًا أن يُدافع الإخوان عن الصبَّاح، فلو جاء فى زمانهم ما تقاعس عن مُبايعتهم والانخراط فى عصابتهم، ولو كانوا على زمانه ما تأخَّروا عن أن يكونوا حشَّاشين، وأن يتدافعوا كعادتهم فى مواكب الأباطيل.









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة