حازم حسين

رفع الأنقاض تمهيدا لإعادة البناء.. استقالة حكومة أشتية بحثا عن دولة فلسطين

الأربعاء، 28 فبراير 2024 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا سبيلَ لإطفاء الحريق والبيت مُنقسم على نفسه. وعُقدة الحرب الأولى أنَّ أحد طرفيها تخطَّى سقفَ الجنون، والآخر كان تائهًا بين أملٍ عريض وأُفق ضيّق. وفى هذا المناخ المشحون جاءت استقالة الحكومة بمثابة خطوةٍ على طريق ترتيب المشهد؛ إذ تُمهِّد لتفاهماتٍ داخليّة تُغيِّر التركيبة التى تسبَّبت فى الانسداد، وتتقاطعُ مع الخارج فى نقاطٍ عدّة: الوساطة العربية الساعية لحصار النار، والمُقاربة الروسية النشطة للتقريب بين الفصائل، ثمّ المطلب الأمريكى بتكوين سُلطة مُتجدِّدة، فى إطار تصوُّرها المُعلَن لليوم التالى بعد التهدئة.
 
قال رئيسُ الوزراء محمد أشتية، إنه وضع استقالته فى عهدة الرئيس عباس قبل أسبوع، وقدَّمها خطّيًّا قبل أيام. وبرَّر القرار بأن المرحلة تحتاجُ لترتيباتٍ جديدة تُراعى تطوُّرات غزَّة، ومُحادثات الوحدة، وأولويّة التوافق الوطنى لبناء صفٍّ مُوحَّد ومُتماسك، ويبسطُ ولايتَه على كامل فلسطين. وبينما لم تُبدِ الحكومةُ إلى وقتٍ قريبٍ أيَّة رغبة فى الرحيل، وكانت تعمل كما لو أنها الشريك المُلازم للتسوية المأمولة؛ فإنَّ خروجَها المُفاجئ من المشهد إنما يُشيرُ لقُرب التوصُّل إلى أرضيّة مُشتركة، فيما بين المكوِّنات الوطنية، ومع الرُّعاة الإقليميين والدوليين. وتلك مسألةٌ مُهمّة لناحية إنضاج بدائل مُستقبلية مُقنعة محليًّا، وقادرة على تفكيك سرديّة إسرائيل عن غياب الشريك، والمُراوغة فى المساحة الفاصلة بين هشاشة السلطة والتشدُّد فى إبعاد حماس.
 
الخطوةُ أقرب إلى الإقالة، لا بمعنى النقد والعقاب أو تسجيل مآخذ على الأداء؛ بل المُراجعة والإصلاح والسير إلى الأمام. لقد قدَّم «أشتية» صيغةً مُنضبطة وناضجة بحسب ما تسمح الظروف، وما يواكب أجواء التشقُّق الوطنى دون تجاهُلها أو تعميقها. ومنذ «طوفان الأقصى» وبدء العدوان الغاشم على غزَّة، حافظ على خطابٍ سياسى شديد الوعى والحصافة، يُراعى الأبعاد الوطنية ومشاعر الشعب تجاه فكرة المقاومة، ولا يخترق التزامات مُنظّمة التحرير أو يتصادم مع البيئة الدولية المشحونة بالانحياز والتناقض. وعندما قَبِل «أبو مازن» الاستقالة؛ كان فى واقع الأمر يُسدِّد حصَّةَ السلطة من صفقة التوافق، ويُقدِّم غطاءً ذهبيًّا للفصائل يُمكن أن يُغطِّى خروجَها من الأنفاق، ويُعيد وَصل شرايينها بجِسم القضية الرسمى. أمَّا الترتيبات الباقية فستكون محلَّ جدلٍ بالضرورة، وربما يعترض عليها العدوّ؛ لكنها مسارٌ لا بديلَ عنه فى سماءٍ مُلبَّدة بالغيوم وجغرافيا شديدة الاحتدام.
 
المطروح تاليًا؛ أن تتشكَّل حكومةٌ فنّية غير مُلوّنة أيديولوجيًّا، يرأسها أحد الخبراء التكنوقراط، أو وجهٌ سياسى خارج أجواء الفرز الخَشِن فى السنوات الأخيرة، على أن يكون محلَّ قبولٍ من المُكوِّن الوطنى العريض بكلِّ تفاوتاته. تردَّدت أسماء مثل: ناصر القدوة ابن شقيقة عرفات باعتباره مقبولاً من حماس، وقائد جبهة الإصلاح الفتحاوية محمد دحلان، ويقال إنه يحوز تزكيةً من مروان البرغوثى بكل ما يتحقق لشخصه من رمزيّة وإجماع؛ وربما المُرشَّح الأبرز والأكثر تردادًا حتى اللحظة، رئيس صندوق الاستثمار محمد مصطفى، وقد يبرز آخرون فى الساعات المُقبلة. وبعيدًا من الاختيار الأخير؛ فإنَّ الفاعلية مضمونةٌ بالتوافق أوّلاً، ثمَّ بإنكار الذات، وتحصين التركيبة الجديدة بأعلى منسوبٍ من التفاف التيَّارات الفلسطينية، وأقل نسبةٍ من القضايا الخلافية والعناوين المُستفزّة للشركاء. ويرتهنُ ذلك بانزواء الأجندات الفصائلية لصالح رؤيةٍ جامعة، واستيعاب الجميع لمنطق الأزمة، وأنهم يُديرون لعبةً سياسية تحت سقف الاضطرار.
 
تقتربُ الحرب من إكمال شهرها الخامس، وقد خلقت وضعًا شديد البؤس والإيلام فى القطاع.. أكثر من مائة ألفٍ بين قتيل وجريح، ونحو مليونى مُشرَّد، وحالة إنسانية تُهدِّد بمخاطر أكبر، لا سيما مع توقُّعات بأن يفقد نحو 85 ألفًا أرواحهم فى الشهور الستّة المقبلة؛ لو بقيت الأوضاع كما هى اليوم. وفى المُقابل تُواصل إسرائيل مُخطَّطَها الحارق، وتُهدِّد باجتياح رفح، ولم تتخلّ عن رؤيتها للتهجير وإعادة التركيب الديموغرافى لمناطق غزَّة. وإن عجزَ سلاحُ المقاومة عن خَلق التوازن ميدانيًّا؛ فالحاجة لتفعيل السياسة صارت مسألةً وجودية، لا تحكمها أهواءُ حركة أو سلطة، ولا يصحُّ أن يتأجَّل فيها عملُ اليوم إلى الغد.
 
الأسابيعُ الأخيرة كانت مضمارًا مُزدحمًا بالمُتسابقين: مخابيلُ تل أبيب لا يتوقَّفون عن تقديم السيناريوهات السوداء، وفريقُ الممانعة يبتلع الطعم حِينًا ويعود لصبره الاستراتيجى أحيانًا، والقوى الفلسطينية تتحدَّث لُغةً تبدو واحدةً ولا تُثمر فَهمًا مُشتركًا، والوسطاء والضامنون يناورون كلَّ ذلك؛ لإيقاف المقتلة وتمهيد الأرض لمسارٍ جديد. وبين جولتين فى باريس، ومداولاتٍ لم تنقطع من القاهرة للدوحة، تبدَّلت الأوراق والمقاربات أكثر من مرّة، وكان واضحًا أن حكومة نتنياهو تُريد الإفلات من فخّ الهدنة الظرفية، تحسُّبًا من أن تصير دائمةً ولا تتيسَّر العودةُ بعدها للحرب. وآخرُ الإشارات أن الرئيس الأمريكى توقَّع الاتفاق خلال أيام، وربما قبل رمضان بحدٍّ أقصى.
 
آخر الأسبوع يلتقى مُمثّلون عن كلِّ الفصائل الفلسطينية فى موسكو. الدعوة الروسية ليست الأولى، وسبق أن عملت على مسألة إنهاء الانقسام، اتّصالاً بجهدٍ مصرى لم ينقطع منذ العام 2007، وكانت جولته الأخيرة بمدينة العلمين الصيف الماضى. والقضايا محلّ البحث لا تختلف دائمًا، ومحورها إعادة وَصل الضفّة بالقطاع، وتركيز قاعدة سياسية جامعة، تبدأ بهيكلة السلطة والحكومة على وجهٍ غير مُتحزِّب، وتقود مُستقبلاً لانتخاباتٍ تُعيد بناء الشرعية الشعبية. وإن كان تيَّارٌ فى رام الله لم ينس تمرُّد حماس قبل عقدين، وجناحٌ فى غزّة يُريد صَرف حصَّته العاطفية بعد الطوفان فى حساب الهيمنة وخلافة فتح وعباس؛ فإنَّ المرحلة الحالية تفرضُ على الطرفين التواضُعَ قليلاً، والاقتناع بأنهما فى أزمة لا تحتمل المناوشات الصغيرة، ولا المغامرات الصفرية، وقد تأكلُ ما فى اليد ولا تُحقِّق ما فى الخيال.
 
ثمَّة دلالاتٌ مهمّة لاستقالة الحكومة. وقد سبقتها جولةُ حوارٍ فى قطر، يبدو أنها أرست أساسًا تلاقت عليه الأسرةُ الفلسطينية فى غلافٍ من الاحتضان العربى. لكنه لا يبتعدُ عن الجولة الروسية الوشيكة، ولا الدعوات الأمريكية السابقة لتصحيح مسار السلطة. من هنا؛ فإنّ التوافق العاجل مصلحةٌ لكلِّ الأطراف تقريبًا؛ باستثناء إسرائيل بالطبع. العرب سيكون بمقدورهم الحديث عن عنوانٍ فلسطينى واحد، وواشنطن ستجد الطرف الذى يُمكن تسويقه بديلاً عن الاحتلال أو هياكل الحُكم الغزِّية القديمة، ودَور موسكو سيُصبح أيسر؛ لجهة الوصول إلى نتائج تضعها فى قلب المشهد، وتُعزِّز حضورها فى المنطقة، بجانب تمكينها من ورقةِ مُناورةٍ مُوازيةٍ لما يحدث فى الساحة الأوكرانية.
 
تحت عنوان الوحدة، يُمكن الحديث عن سيناريو مُغاير لليوم التالى. إسرائيل تسعى للبقاء بسيطرةٍ أمنية أو إشرافٍ إدارى، وحاولت مُؤخّرًا إعادةَ إنتاج تجربة روابط القُرى القديمة، بالتواصل مع العشائر والكيانات غير الفصائلية. وثمَّة أفكار عن تقسيمات إدارية للقطاع، أو غلافٍ عازل داخل الغلاف القائم بالفعل. وما بعد حكومة التكنوقراط سيكون مُقنعًا بسُلطةٍ فلسطينية مُوحَّدة ومقبولة شعبيًّا، وبدائل أمنيَّة من الداخل أو بمُعاونة إقليمية ودولية. وبعيدًا من الصيغة الأخيرة التى يُمكن الاتّفاق عليها، فإن اجتماع الفصائل تحت رايةٍ واحدة يُحاصر مُماطلة نتنياهو، وأفكار حُلفائه المُتطرّفين من اليمين التوراتى، وبالتأكيد سيكون مُؤثّرًا فيما يخصُّ الانحياز الغربى، وأن تلتفت إدارة بايدن إلى خياراتٍ غير ما يعتصمُ به حلفاؤها الصهاينة.
 
كانت الأزمةُ أن الانقسام يُهدِّد التهدئة. «أبو مازن» ليس بمقدوره التقدُّم لإدارة القطاع؛ ليبدو كما لو أنه آتٍ على الدبابة، أو يُغامر بإنهاء التجربة برصاصةٍ حماسية واحدة. و«السنوار» ورجاله غير قادرين على تجاوز خطِّ الهُدنة؛ إذ يُلاحقهم الوَصم والاستبعاد ويتآكلُ غطاؤهم السياسى فى عواصم النزوح، والاحتلال يتَّهم الأوَّل ويرفض الثانى. لكنَّ تقليبَ المُكوِّنات نفسها؛ قد يُنتج صيغةً قادرةً على إقناع الخارج مرحليًّا، وعلى تعطيل دعايات نتنياهو؛ بما يكفى لإبراز تناقضات الائتلاف، وتصعيد سخونة الشارع وأهالى الأسرى. وبينما يسعى لإرجاء الهُدنة، أو فَصل مرحلتها الأُولى عن بقيّة المسار؛ فإنّ مُغادرة ميدان الحرب مع إجماعٍ إسرائيلى وانقسام فلسطينى؛ سيكون مُختلفًا تمامًا عن محاولة العودة إليها بميزانٍ مقلوب: الانقسام فى تل أبيب، والإجماع فى الضفّة والقطاع.
إن تحقَّق الاتفاق؛ فينبغى أن تُؤخَذ الأمورُ بحقِّها كاملاً. أوَّل الالتزامات أن تعود غزَّة لفلسطين وتُفصَل عن محاور الخارج. الشهورُ الماضية كشفت أنها ورقةٌ فى جَيب الممانعين، ومن حيث ادّعوا إسنادها، كانوا يُكيّفون مواقعهم على الخريطة، ويُحضّرون لمُداولات الغُرف المُغلقة، وحجم ما يتطلّعون إليه من مكاسب، بصفقة مع واشنطن أو إرساء توازناتٍ جديدة تجاه إسرائيل. ومُؤخّرًا تصاعد الموقف فى جنوب لبنان، وطالت الضربات شرق بعلبك على بُعد 98 كيلومترًا تقريبًا من الحدود، كأعمق اختراقٍ منذ حرب 2006، والأضخم بعد غارات منذ أسبوعين. تُريد تل أبيب أن تفصل الضاحية عن القطاع، وفى ذلك مصلحةٌ للغزِّيين وإن أنكروها. وبتصاعد احتمالات الذهاب لحربٍ مع الحزب؛ فليس لصالح القضية أن تظل مشبوكةً فى أطراف أصابع الميليشيات الشيعية.
 
الحكومة الفلسطينية المُرتقبة ليست غايةً فى ذاتها؛ لذا يتعين ألا تكون مُنطلقًا للخلاف والصراعات. للسلطة وضعية شرعية لم يأكلها الاحتلال، وعلى المقاومة أثقال أنشأتها الحرب الأخيرة بكل ما فيها من مظالم. لا منفعةَ من سُلطة فى رام الله، أو انفراد بغزّة؛ طالما الدولة نفسها مُضيَّعة بين أطماع الداخل، واختلالات الخارج، ونزاع الولاءات. استقالةُ الحكومة يُمكن أن تكون بدايةَ الطريق لتجربةٍ وطنية أكثر نضجًا، تُعيد بهاءَ مُنظّمة التحرير وصياغةَ فلسفة المقاومة، وتستعيدُ ما كان فى اتفاق أوسلو من بشائر، دون ما فيه من ضعفٍ سياسى وشُروخٍ عقائدية. الحياةُ أقوى أسلحة الأرض والناس فى مواجهة عدوٍّ يتفنَّن فى صناعة الموت، ويُدمن العيش على حدِّ السيف. وأوَّل شروطِ التطبيع مع الأمل أن تُستنقَذ غزَّة من محنتها، وأن يتآلف الفاعلون على الاستثمار فى التلاقى لا التربُّح من الشقاق. والقضيةُ نزفت كلَّ ما فى شرايينها من أفكارٍ قديمة وشعاراتٍ لاهبة، ولعلَّها أحوج ما يكون اليوم إلى التواضع أمام النفس، ولصالح الأبرياء الذين يدفعون كُلفةَ المُغامرة ولم يروا لها ثمارًا، وأوّلاً وأخيرًا لفلسطين التى أتعبتها نزوات أبنائها، بقدر ما سحقتها وحشيّة العدوِّ الغادر وثِقَل السنوات المُهدَرة.






مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة