قبل عشر سنوات تقريبا أصدرت كتاب «عوام خانة»، قلت فيه إننا أمام حروب تسويق للسلع والبشر والمنتجات والسياسات، وحتى الحروب.
وقد خاضت الولايات المتحدة الأمريكية بعد 11 سبتمبر واحدة من كبرى حروب الدعاية لتسويق حرب القلوب والعقول، وتم تجنيد أعداد من الشباب العربى علنا، عن طريق إعلانات فى الصحف، تطلب «شباب عربى يجيد اللهجات المحلية العراقية»، وتم التعاقد مع معلمين لتدريس اللغة العربية والعادات والتقاليد للجنود، خاصة لعملاء الاستخبارات الذين ذهبوا للحرب، وتمت إقامة محطة فى ألمانيا لتدريب الفرق التى مهدت للهجوم.
كان غزوا للعراق لكن أمريكا باعته على أنه إنقاذ للبشرية، وانتشر مبشرون أمثال توماس فريدمان الكاتب فى «نيويورك تايمز»، الذى بشر بما أسماه السيارة الليكزس وغصن الزيتون، وقدم غزو العراق باعتباره مقدمة لرفاهية المنطقة.
بعد أكثر من عشرين عاما، يكاد العراق يخرج من تداعيات الغزو، الذى تم وعلى أثره جرى تدمير وتفكيك المؤسسات والأجهزة الأمنية، وشهد العراق حروبا طائفية، ونهبا لثرواته، وصعد تنظيم داعش الذى اجتاح أراض فى سوريا والعراق، وانتقل إلى ليبيا، وبجواره تنظيمات القاعدة وغيرها، كانت التكفيرات والمذابح تنم بدعم وتوجيه من دول إقليمية، وكانت الرايات السوداء والهاربات ذات الدفع الرباعى هى العنوان مع تصوير احترافى لعمليات الغزو، وتحركات المجاميع بشكل أثار الرعب وأسقط مدنا هجرها أهلها بناء على عملية تسويق فنية.
والواقع أن «داعش» كان تجليا لتفاعلات سياسية واستخبارية، حولت دعاوى التغيير إلى حركات انتقامية، وحروب أهلية أثمرت تنظيمات إرهابية مسلحة، تلقت الأموال والأسلحة الحديثة، وسيارات الدفع الرباعى، بينما اختفت الحركات السياسية فى سوريا وليبيا، وبدت أنها رد فعل على أخطاء الطغيان، وغياب القدرة لدى بعض الأنظمة على استيعاب تطورات واضحة فى العالم كله، لكن المفارقة أن الحركات السياسية اختفت، وصعد تنظيم داعش والقاعدة أو النصرة، لكن مع الهزائم التى تلقتها التنظيمات المختلفة وعلى رأسها داعش، عاد «النصرة» وغير اسمه إلى أحرار الشام، وتحرك ليقود المسلحين إلى مدن ومحافظات سورية وانتهى الأمر بهروب الرئيس السورى بشار الأسد وسقوط النظام فى دمشق.
وظهر القائد السابق لتنظيم النصرة، وعضو داعش السابق فى صورة جديدة أقرب لـ«فوتوسيشن» احترافى وفنى، وطريقة حديث تشير إلى الحفاظ على وحدة الأراضى السورية، وتأمين الشعب لكل فئاته.
الخطاب والتحركات ولقاءات المساجين أو قادتهم الظاهرين مع رئيس وزراء سوريا المكلف، تحمل صيغة تختلف عن الصورة التى ظلت تطارد السوريين طوال سنوات صعود داعش.
لكن بعد هزيمة داعش والنصرة اختفت القيادات واختلفت الأخبار حول ملاذاتها التى استقبلت أعدادا من المقاتلين والقيادات، والذين يبدو أنهم تلقوا تدريبات فى دول مجاورة، ومعهم تعليمات تختلف عن السابق، فيما يبدو أن المخرج غير فى الإسكريبت وأداء المجموعات والقيادات، وأعاد توزيع الأدوار وطريقة الأداء بشكل أكثر قبولا مما كان فى التجربة الأولى، ويبدو أن هذا المكياج وزوايا التصوير نجحت فى تسويق التنظيمات السابقة فى صورة جديدة، لدرجة ظهور بعض التفاؤل بأن تكون هناك نتائج مختلفة، حتى مع سوابق قريبة تجعل من الصعب تصور أن تكون هذه التنظيمات تغيرت بشكل انقلابى وأنها مستعدة لمسار سياسى ينتهى باستقرار، بينما أغلب مرجعيات هذه التنظيمات تقوم على التكفير والعنصرية والطائفية.
أما العنصر الثانى الذى يضاعف من الشك، هو أن إسرائيل التى ظلت دائما بعيدة عن أى تهديد ولو لفظى من هذه التنظيمات، تبدو هى الرابح الأول من إسقاط سوريا وربما تقسيمها على الأقل فى الوقت الحالى، ظلت بعيدة عن التهديد من كل التنظيمات، وربما بقيت بعيدة وآمنة وسط انشغال دول عربية فى حروب أهلية وطائفية أو مشكلات اقتصادية وسياسية، وحتى الدول التى لم تطلها رياح الصراعات واجهت تهديدات وأنشطة إرهابية من داعش وأخواته، إلا إسرائيل التى لم تضيع وقتا وبدأت إطلاق عملية الشرق الجديد، وشن الطيران الحربى الإسرائيلى عشرات الغارات الجوية على مواقع مختلفة فى سوريا استهدفت نحو 100 موقع عسكرى، تزامنا مع احتلال مواقع فى المنطقة العازلة، بحسب ما أكده المتحدث باسم جيش الاحتلال الذى أعلن إطلاق عملية عسكرية باسم «الشرق الجديد» فى عملياته بجنوب سوريا، حيث تم استهداف طائرات الميج فى مطاراتها، الأمر الذى يجعل من إسرائيل طرفا فاعلا فى هذه الصورة الجديدة، وما تم من عملية تسويق جديدة لتنظيمات دخلت غازية حتى لو كانت تطلق خطابا عن مسار سياسى لا يبدو له أفق، غير إعادة تسويق الفوضى.
بالطبع فإن النظام فى سوريا يتحمل مسؤولية ما جرى بغروره وصلفه وطغيانه، تاركا فوضى قد تتيح التقسيم، وتسمح بتنفيذ مخططات تهجير فشلت حتى الآن.
