حالة من العجز الدولي، تجلت بوضوح في التعامل مع العديد من الأزمات التي شهدها العالم، خلال الأشهر الماضية، وربما أبرزها أزمة العدوان على غزة، وهو ما بدا ليس فقط في امتدادها الزمنى، حتى أصبح عمرها عاما كاملا، وإنما أيضا في تمددها الجغرافي، لتضع العديد من دول الشرق الأوسط على خط المواجهة، أمام عدوان غاشم، يرتكب الانتهاكات مرارا وتكرارا دون رادع، لتتوسع دائرة الحرب من القطاع المحاصر، إلى دول الجوار، وعلى رأسها سوريا ولبنان، ومنهما إلى اليمن، وما ترتب على ذلك من مخاوف جراء مزيد من الاتساع قد تصل بالإقليم إلى مواجهة أكبر تتداخل فيها أطراف أقوى، في إطار حرب إقليمية شاملة.
ولعل العدوان الإسرائيلي وما ارتبط به من انتهاكات، ليس بالأمر الجديد، حيث يرتبط ارتباطا لصيقا بالنهج الذي يتبناه الاحتلال منذ نشأته في الأربعينات من القرن الماضي، وهو ما بدا في العديد من المجازر التي ارتكبتها الدولة العبرية لعقود طويلة من الزمن، وهو الأمر الذي كان يجد تفسيره في حالة الانحياز المطلق من جانب القوى الدولية الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة ومن ورائها دول المعسكر الغربي، لطرف بعينه، وهو الأمر الذي يسلط الضوء على عجز المنظمات الدولية، وعلى رأسها الأمم المتحدة، في تحقيق أي قدر من العدالة الدولية، خاصة في ظل استحواذ قوى بعينها على حق النقض "الفيتو" داخل مجلس الأمن، والذي طالما استخدمته واشنطن وحلفائها، ومعها بريطانيا في بعض الأحيان، كأداة لحماية إسرائيل وتمرير انتهاكاتها على مرأى ومسمع العالم.
الأمر نفسه ربما تكرر في المشهد الحالي في عدة مرات، حيث استخدمت واشنطن الفيتو ثلاثة مرات، منهما مرتين ضد مشروع قرار لوقف إطلاق النار، ومرة واحدة ضد قرار من شأنه منح فلسطين العضوية الكاملة بالمنظومة الأممية، إلا أن بعدا جديدا أفرزه المشهد الحالي في قطاع غزة، يتعلق بتمرير مجلس الأمن لقرار من شأنه إقرار هدنة إنسانية خلال شهر رمضان الماضي، وهو القرار الذي لم اكتفت فيه الولايات المتحدة بالامتناع عن التصويت، ليصبح القرار ساريا وملزما على الاحتلال، إلا أنه لم يلتزم به، وواصل عملياته العسكرية، وهو ما يسلط الضوء على حالة من الاهتراء، لم تقتصر في نطاقها على الأمم المتحدة، والتي عجزت عن تنفيذ قرارها، وإنما امتدت إلى القوى الدولية الحاكمة للعالم، والتي فشلت هي الأخرى، في فرض رؤيتها على حليفتها الرئيسية في الشرق الأوسط، أو احتوائها، رغم ما قدمته لها من حماية لعقود طويلة.
والحديث عن فشل واشنطن في احتواء تل أبيب، في إطار سياسة تبنتها الأخيرة، يمكننا تسميتها بـ"الحليف المتمرد" ربما تكرر في العديد من المشاهد خلال الأزمة الراهنة، تراوحت بين إدانات أمريكية غير مسبوقة للانتهاكات الإنسانية في غزة، ودعوات مباشرة لوقف إطلاق النار، وحتى خطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في الكونجرس، والذي يأتي في توقيت حساس بالنسبة لإدارة الرئيس جو بايدن، مع اقتراب الانتخابات الرئاسية، في ظل استقواء إسرائيلي صريح بالجمهوريين في مواجهة الإدارة الديمقراطية، تعكس رغبة ملحة في إثارة الانقسام داخل المجتمع الأمريكي، عبر حشد مؤيدي إسرائيل ضد نائبة الرئيس كامالا هاريس، والتي ستخوض الانتخابات المقبلة، عن الحزب الديمقراطي، ضد الجمهوري دونالد ترامب.
ولكن بعيدا عن التمرد الإسرائيلي على الولايات المتحدة، يبقى النهج نفسه هو المهيمن على الرؤية الإسرائيلية تجاه الأمم المتحدة، وأجهزتها، وعلى رأسها مجلس الأمن، وهو ما بدا في رفض تل أبيب لقرار الهدنة المذكور، رغم تمريره، من جانب، بينما تجلى في مشاهد أخرى، ربما أبرزها تمزيق ميثاق الأمم المتحدة من قبل مندوب إسرائيل إردان جلعاد، وذلك احتجاجا على تصويت أغلبية أعضاء الجمعية العامة لصالح قرار يدعو مجلس الأمن للنظر مجددا بإيجابية في منح فلسطين العضوية الكاملة.
المشاهد السابقة تعكس بجلاء حالة من الضعف في المنظومة الأممية، بينما في الوقت نفسه تراجع القوى الكبرى المهيمنة على النظام الدولي، منذ أكثر من ثلاثة عقود من الزمن، في ضوء فشلهما في فرض رؤيتهما على دولة واحدة مارقة، وهو ما ينذر بتكرار المشهد في العديد من مناطق العالم الأخرى، مما يسلط الضوء على الحاجة الملحة لإعادة هيكلة النظام الدولي برمته، عبر تحقيق إصلاح من شأنه إحداث تكافؤ بين القوى المؤثرة في العالم، في عملية اتخاذ القرار، حتى يمكن تحقيق المزيد من الفاعلية للقرارات الأممية، خاصة في اللحظات الاستثنائية على غرار الأزمة الراهنة، في ضوء قابليتها للتفاقم، عبر التحول نحو حرب إقليمية شاملة، حال الفشل في احتواء العدوان الإسرائيلي.