حازم حسين

حرب الذرائع ودوّامة الأخطاء.. عن طوفان نتنياهو العالى وخيال أعدائه القديم

الخميس، 17 أكتوبر 2024 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

مثلما يُقالُ فى الأنشطة الإبداعيّة والجماهيريَّة إنَّ الوصولَ للقِمَّة سهلٌ، والصعب أن تحتفظَ بالبقاء فيها؛ فالصراعاتُ أيضًا تحتكمُ للمبدأ ذاتِه، أكان بالقوَّة أم بالسياسة. إذ ليس مهمًّا أن تحسمَ جولةً طالما لم يكُن لديك تصوُّرٌ كاملٌ عمَّا بعدها، ولا معنى لأنْ تقفزَ خطوةً واسعةً للأمام، فى حال كان الاحتمالُ قائمًا بأن ترتدَّ للخلفِ عشرًا أو عشرين. وأحسبُ أنَّ أوضحَ النماذج لاختبار تلك البديهيَّات يتجسَّدُ على الصورة المِثاليَّة فى إسرائيل، وفى مسارِ الاشتباك معها، صعودًا وانحسارًا، منذ تخليقها من العَدَم حتى اليوم. ولا تمنعُ العداوةُ والرفضُ المُطلَقان لأجندتها الإلغائيَّة الباغية؛ لو كُنّا نتوخَّى الوقوعَ على فَهمٍ واعٍ ودقيقٍ فعلاً، من القول إنهم كانوا يتقدَّمون بينما نتأخَّر، وفى كلِّ خطوةٍ غير محسوبة من جانبنا كانوا يتقدَّمون خطوات، وفى كلِّ تقهقُرٍ اضطرارىٍّ نُدفَعُ إليه، كان مشروعُهم يزدادُ توهُّجًا، بينما تنطفئُ العناصرُ المُضيئة فى مشاريعنا، وأهمّها الوِفاق على رؤيةٍ واحدة ومُشتركاتٍ جامعة. وباستثناءِ الفاصل المشحون مع مصر؛ فلَمْ تُضبَطْ دولةُ الاحتلال فى حال تراجعٍ أو انكماش، ولا أخذَ العربُ منها باللِين أو الشِّدَّة، مقدار ما أهدوها إيَّاه بالضعف حينًا، وبالخِفَّة والاستسهال فى أغلب الأحيان.


عبَّرت «حماس» فى طوفان الأقصى، قبل سنةٍ من الآن، عن أعلى صُوَر تحقُّقِها الميدانىِّ وحضورِها الفاعل فى المشهد الفلسطينىِّ. ولا وجهَ للمُكابَرة فى حجم العمليَّة التى أطلقتها على غلاف غزَّة، أو فى مُلامستِها حدودَ الإتقان الكامل فى التخطيط والتنفيذ. الثغرةُ الوحيدةُ أنَّ الحركة كانت آتيةً من سباتٍ طويل، ولو أسقطنا بعضَ المُناوشات العابرة بين وقتٍ وآخر؛ فإنها منذ فازَتْ فى الانتخابات العامة، ثمَّ انقلَبَتْ على السُّلطة لتنفَرِدَ بإدارة القطاع، بدت أنها تُعيدُ هندسةَ موقعِها من القضيَّة على صورةِ البديل السياسى، بأكثر مِمَّا تُقدِّمُ نفسَها قائدًا لجبهة المُقاومة المُسلَّحة. لقد اختطَفَتْ جنديًّا فى عام السباق الديموقراطىِّ، واصطَبَرتْ فى التفاوض عليه لخمسِ سنواتٍ حتى أبرَمَتْ صفقةً ناجحة، بينما أخْلَت موقعَها النضالىَّ لابنتِها المُتمرِّدة «الجهاد الإسلامى»، وكثيرًا ما وَقَفتْ موقفَ المُتفرِّج من تحرُّشِ الاحتلال بها، واستهداف قادتها وأُصولها عبر عِدَّة حروبٍ تكتيكيَّة مُؤطَّرةٍ فى الدمار والأهداف.


وجاءت الانتقالةُ الكُبرى عندما أطلقَتْ وثيقتَها الاستراتيجيَّةَ المُحدَّثَة بالعام 2017، وفيها ارتدادٌ عميقٌ عن كثيرٍ من ثوابتها القديمة؛ لعلَّ أبرز نقاطِه الاعتراف الضمنىّ بإسرائيل من جهة القبول بحلِّ الدولتين، وفَكّ الارتباط مع جماعة الإخوان. وبعيدًا مِمَّا كانت تُراهِنُ عليه وقتَها، أو أنها ظلَّت خارجَ مُنظَّمة التحرير، وكانت تسعى للحلولِ بديلاً عنها؛ فالفكرةُ أنها عبَّدَتْ الطريقَ بكلِّ ما يحولُ دونَ اندلاع الحرب، وخسرتْ لياقتَها على المستوى الحركىِّ والأيديولوجى، وإنْ حافظَتْ على لياقة مُقاتِلى القسَّام. لقد انطلق «السنوار» من الصفر بأقصى سرعةٍ مُمكنةٍ، وبجانب مخاطر التعثُّر الطبيعيَّة، فأخطر ما فى الاندفاعة الهائجة أنها تُضاعِفُ تكاليفَ الصدام.

على مَقلبٍ آخر. كانت محطَّةُ «حزب الله» الأهمّ من الجانب اللبنانى فى حرب العام 2006؛ إذ لم ينكسِرْ أمامَ العدوِّ كما كان مُتوقَّعًا، ولا أُعيدَ احتلالُ الجنوب، فضلاً على خروجِه من الميدان بفائضِ قوَّةٍ كاسح، جَرَى صرفُه لاحقًا فى الجبهة الداخلية، وعلى شُركاء الميثاقيَّة التى رافقَتْ الدولةَ منذ كانت فكرةً، وتأكَّدتْ بالنار والدم فى الحرب الأهليَّة ثمَّ اتِّفاق الطائف. ولعنةُ الميليشيا الشيعيَّةِ ذات الهوى الإيرانىِّ كانت فى نعمَتِها، بمعنى أنها خرجَتْ فائزةً بالاحتكام لمَنطقِ حروب العصابات مع الجيوش النظاميَّة، فتربح الأُولى إنْ لم تخسَر، وتخسرُ الثانيةُ طالما لم تُحقِّق نصرًا حاسمًا. وتلك التركيبةُ المُسطَّحةُ لم تُغيِّر جوهرَ المُواجهة التعادُليَّة، لكنها أثَّرت على نظرةِ كلِّ طرفٍ لها من جانبه.

تعامَلَت الضاحيةُ بعقليَّة المُنتصر؛ فَلَمْ تَرَ أنها فى حاجةٍ للمُراجعة والتقويم، وأبقَتْ على عقيدتها وتكتيكاتها القتاليَّةٍ دون تغييرٍ أو تطوير. بينما نظَرَتْ تلُّ أبيب لنفسِها فى مرآةِ الهزيمة؛ فأعادت ترميمَ ما تساقط منها وراء الخطِّ الأزرق، ودشَّنتْ القُبَّةَ الحديديَّةَ وبقيَّةَ عناصر نظامها الدفاعىِّ مُتعدِّد الطبقات، ونشطَتْ فى اختراق الحزب وتفخيخِه من داخله. والمُحصِّلةُ أنه عندما فجَّرت «حماس» طوفانَها، وتلقَّى حسن نصر الله أمرًا من طهران بالإسناد والمُشاغَلة، لأغراض غَسْل السُّمعة وإبقاءِ شعار «وحدة الساحات» فوق حَدِّ الانكشاف الكامل؛ أعاد استنساخَ جانبٍ من تجربته التى لم يُحدِّثها، بينما فاجَأه نتنياهو من الجانبِ الآخر بمعركةٍ «لا تماثُليّة» من نوعٍ جديد، وضرباتٍ تحت الحزام وفوق سقفِ الاشتباك، أفضَتْ لتحييد صَفِّ القيادة العُليا كلِّه تقريبًا، وأظهرت هشاشةَ الحاضنةِ الحزبيَّة، ثمَّ أزاحت الأمينَ العام شخصيًّا فى خزانته السريَّة، ووسط دائرتِه اللصيقة من أقربِ الرجال وأكثرِهم إخلاصًا.

والصراعُ إذ يأخذُ صورةً ديناميكيَّة لا تتوقَّفُ عن الفوران؛ فإنه يَقضى حتمًا بتآكُلِ قُدرات المُغرَمين بإنتاج نجاحاتهم القديمة، أو ما يتصوَّرون أنها نجاحات، بقدر ما يُربِكُ الراغبين فى إحراز انعطافةٍ سريعة دون تقديرٍ لأثر السرعة وطبيعة الطريق. والحماسيِّون إن كانوا أخذوا زمامَ المُبادرة فى عملية أكتوبر؛ فإنه لم يكُن قد طرأ على بيئتهم ما يُوطِّد لهجمةٍ من تلك النوعيَّة، ولا ما يُرجِّح أنهم استوعبوا أثرَها وتحسَّبوا لِمَا بعدها. بالضبط كما أنَّ الحزبَ اندفعَ إلى قلبِ العاصفة دون معرفةٍ باتِّجاه الرياح؛ ناهيك عن القُدرة على اتِّقاء هياجِها أو الاحتماء مِمَّا تُثيره من غبار. وعلى هذا المعنى؛ كانت الضربةُ تعبيرًا عن انفعالاتٍ عاطفيَّة تُحرِّكها حساباتُ الخارج أكثر من الداخل، أكان فى القلقِ من تمدُّد قافلةِ التطبيع، أم فى التمرُّد على خيارات شُركاء المُمانعة، وقد بدا أنهم ذاهبون لتسوياتٍ لا تتلاقى مع طموحات السنوار، أو أنه يُزاحُ جانبًا من أجندة الشيعيَّة المُسلَّحة؛ بعدما كانت هى نفسُها بين الأسباب التى أفسدت علاقتَه بالدائرة العربيّة.

سيقولُ قائلٌ إنَّ الاحتلالَ لا يحتاجُ مُبرِّرا للقتل؛ إنما لا يعنى ذلك أنَّ الأسبابَ مُستبعَدَةٌ بالضرورة من النظر فى جَردةِ النتائج. والقصدُ أنَّ النصرَ أو الهزيمةَ ليسا مُجرَّد عنوانٍ إجمالىٍّ يتعلَّقُ فى الفراغ؛ بل داخل كلٍّ منهما مستوياتٌ وطبقاتٌ يتفوَّق بعضُها على بعض. كانت القضيَّةُ تنزف بلا انقطاعٍ منذ سبعة عقود، أكان فى الحجرِ أمْ البَشَر، ورغم هذا لا تصحُّ المُساواة بين النكبة الافتتاحية والانتفاضة التى أفضت لأوسلو، ولا بين وجيعة انتفاضة الأقصى وما وصلناه فى النكبة الحالية. العدوُّ على حالِه التى نعرفُها دون اختلافٍ؛ لكنه لم يتجرّأ فى السابق على مثل ما أنزلَه اليومَ بالقطاع؛ حتى أنَّ خسائرَه الماديَّة والإنسانيَّة تكاد تتجاوزُ كلَّ ما خسرته فلسطينُ منذ ابتداء مِحنتِها. وهُنا؛ لا تُلامُ الفصائلُ قطعًا على جنونِ الصهيونيَّة بجناحيها القومىِّ والتوراتىِّ؛ لكنها يتعيَّن أن تُسائِلَ نفسَها، وتتقبَّلَ مُساءلة شعبِها والشارعِ العربىِّ من خلفه، عن إساءة التقدير فى المواقيت والحسابات، بما سمحَ بأنْ تضربَ موعدًا مع ذئبِ الليكود فى أشدِّ حالاته توحُّشًا وارتباكًا، وأن تفتتحَ حربًا على مرمى حجرٍ من الانتخابات الأمريكية بتعقيداتها العميقة، فضلاً على أنها لم تتحضّرْ ببرنامجٍ عقلانىٍّ لإدارتها، وما انشغَلَتْ بأىِّ شىءٍ على الإطلاق فيما بعد الرصاصة الأُولى.

الخيالُ القديم لم يكُن عائقًا عن استبصار الواقع فحسب؛ لكنه أفسحَ الطريقَ لافتراضاتٍ وهميّةٍ لا تدعمُها أيَّةُ أسانيدٍ موضوعيَّة. رهانُ الحركة كان أنْ تُؤلِمَ جيشَ الاحتلال وتعود بنفرٍ من الأسرى؛ فيتيسّر لها أن تُؤكِّد هيمنتَها على مجال القضية، وأن تُبرِمَ صفقةً أكبر من نسخة «شاليط 2011». والافتراضُ هُنا أن تخضعَ إسرائيل، أو يتدخَّل العالمُ لاستنقاذ القطاع، وما حدثَ أنَّ الهجومَ تضخَّم فوق المُراد منه، أو بما يتجاوزُ قُدرةَ الغريم على احتواء آثاره. وعلى الدرجةِ ذاتِها من الضلالات؛ كان الحزبيِّون فى لبنان يتصوّرون إمكانيةَ العُبور من حقل الألغام ببعضِ المُناوشات الخفيفة، بما يُبرِّئُ الذمَّة ولا يجلبُ الصدام؛ بينما الطرفُ الآخرُ استبقَ الزمنَ بالتحضير لتلك المُواجهة، وكان ينتظرُ «الطوفانَ» من ناحية الجليل لا أطراف النقب. وهكذا تبيَّن بالمُمارسة العَمَليّة أنَّ الذرائع المُتَّخذة لتصليب خطاب المقاومة، خدمَتْ أعداءها بأكثر مِمَّا صبَّتْ فى صالحها، وجلَبَتْ عليها كلَّ ما كانت ستستميتُ فى الهربِ منه لو خُيِّرت فيه؛ لكنها أضاعت فُرصةَ الاختيار استباقيًّا؛ برَهْنِ أوراقها على طاولةِ مُقامرٍ مُحتَرفٍ وباردِ الأعصاب فى تلّ أبيب.

بدا مبكّرًا أنَّ نتنياهو لا يغتاظُ من ثِقَل الضربة فحسب، كما تأكَّد لاحقًا أنه لا تعنيه الرهائنُ، وقد لاح ما يشى بتفعيل «بروتوكول هانيبال» عمليًّا. لقد كانت تحرُّكاته أقربَ إلى الاستدراك ومُداواة الأخطاء القديمة، ورأى النزاعَ على صِفَةٍ شخصيَّة تتجسَّدُ فى صورة السنوار، الذى نال حرّيته بإقرارٍ مُباشر منه فى حكومةٍ سابقة. وإذا كانت إساءةُ سَلَفِه الليكودىِّ شارون قبل حرب 2006 جرَّأت الحزبَ على خَوضِها؛ فإنها جَرَتْ فى ولاية كاديما وقائده أولمرت، وإذ يُنتدَب اليومَ إلى الجبهة الشمالية؛ فإنه يقتصُّ بأثرٍ رجعىٍّ من خطّة فكّ الارتباط التى ناصبَها العداء، ومن العوار الذى تبدَّى من الجنرال الدموىِّ فى شيخوخته، بقدر ما يُوجِّه رسالةً للداخل بأنه يُعالجُ خطايا المُنافسين اليمينيين، وينتقمُ من حزب كاديما كخطوةٍ انشقاقيَّة عن الليكود. والمُواجهة على هذا المعنى؛ لا تقعُ فى نطاق الثأر من الطوفان، ولا مُعاقبة الحزب على الإسناد؛ إنما تعودُ لعقدين كاملين على الأقلّ، ويصعبُ تفكيكُها اليومَ دون النظرِ لأسبابها بالأمس.

مُعالجةُ الخطايا كانت تقتضى تفعيلَ الذاكرة، وأن يستعيد الراحلُ حسن نصر الله قولَه الشهيرَ بعد معركته السابقة؛ بأنه لو كان يعلمُ أثرَ خَطف الجُنديَّيْن ما سار إليه. وإذ يُعبِّر خطابُه القديمُ عن نُضجٍ فى الاعتراف بالمسؤولية عن الدمار الذى طال البلدَ بكامله؛ فإنه ما أبدى الحساسيةَ نفسَها وقتَما جَرَّ اللبنانيِّين من ورائه إلى مُغامرةٍ خاسرة بالضرورة، على اعتبار أنه لن يستطيع صرفَ الجنونِ الإسرائيلىِّ من سماء غزّة، بينما يُغامر باستدعائه إلى لبنان. ومع الحصافةِ المعروفةِ عن الرجل؛ فالمُبرِّرُ الوحيد أنه لم يكُن مُخيَّرًا فيما اختاره بعد ساعاتٍ من الطوفان، أىْ أنَّ الدخولَ إلى الميدان فُرِضَ عليه باعتباراتِ التكتيك أو سُلطة الإذعان والمُوالاة العَقَدِيَّة؛ فانصرفَ الذِّهنُ عن خطورة إرخاء الذرائع لضِباع الصهيونية بينما تلعقُ جراحَها بغضبٍ ظاهرٍ لا مكتوم، وتتلمَّظُ بشهيّةٍ مفتوحة لتصفية كلِّ الحسابات العالقة. ومن جديدٍ؛ لا معنى للقول إنَّ العدوَّ قتَّالٌ بطبعه، أو أنَّ الفريسةَ لا تُسألُ عن شهوةِ الصيَّاد، فالواقع أنَّ دعوةَ الرقص قد جاءته من أمين الحزب؛ ولو على رغبةٍ منه واشتياق، وبافتراض أنَّ سماحةَ السيد أحجمَ عن مُبادرته؛ مَا تَمكَّن غريمُه من استدعائه والتصويب عليه، وعلى شعبٍ كامل.

أصدقُ ما فى «الطوفان» أنه عبَّر بالرمز عن طبيعة الحروب؛ إذ تتشابكُ فيها الأمواجُ فى إثرِ بعضِها، وكلَّما وصلَتْ إحداها للشطِّ كانت الثانية فى الطريق، والثالثة فى طَور التشكُّل. تلك الديناميكيَّة حاضرةٌ داخلَ إسرائيل وغائبةٌ عن ساحات المُمانَعة. فبينما تُبرِزُ الحكومةُ أجندتَها، ويُشهِرُ الجنرالاتُ أسلحتَهم، لا يتوقَّفُ الشارع عن إبداء غضبِه من الجميع، ولا يخلو الإعلامُ من انتقاداتٍ صارخةٍ تصلُ لمستوى الاتِّهام بالخيانة، وافتتاح مَوسم المُساءلة والنقد والتقويم؛ بينما على الجانب الآخر «لا صوتَ يعلو فوق صوتِ المعركة»، وتُقمَعُ كلُّ الآراء المُعارضة للشيعيّة المُسلَّحة بدوافعَ عاطفيَّةٍ وعقائدية، وبعيدًا من نطاق العقل، واعتبارات المصلحة والمَنطق السليم. قلَّبَ العدوُّ أوراقَه على كلِّ الجوانب، وركبَ الطوفانَ موجةً بعد موجة، مُنتقِلاً من غزَّة إلى الضفَّة ثمَّ سوريا ولبنان، ويختصمُ إيران الآنَ طَلبًا للمُواجهة المُباشرة. والحال؛ أنه من دون وقفةٍ جادة، واعترافٍ مُتجرِّد، وبحثٍ أمين فى الأسباب والنتائج؛ سيتعذّرُ اجتياز حدِّ المِحنة إلى أُفقٍ يُرشِّد الخسارة، ناهيك عن الإقرار أصلاً بأنه لا فرصةَ للرِّبح.

ثمّة تيَّارٌ عريضٌ يستنزفُ طاقتَه فى البديهيَّات. والحقّ أنّه لا خلافَ على وحشيّة العدوِّ وسفالته، ولا على أنه يُذخِّرُ بنادقَه طوالَ الوقت، ويحملُ أجندةً سوداء تجاه فلسطين والمنطقة. لكنَّ الانطلاقَ من مُسلَّمةٍ تُبرِّئ الطرفَ الذى نتبنَّاه عاطفيًّا بشكلٍ كامل، لا تخدمُ غريمَه المُسلَّحَ حتى الأسنان فحسب؛ بل تُعطِّله هو نفسُه عن استيعاب الواقع على صورتِه الحقيقيَّة، وعن ترتيب أوراقِه وفقَ الإمكانات والتحدِّيات، وأن يتجاوز غرامَه بالذات، وفتنةَ العبور فى ساحات الخطر بذهنيّةٍ انتحاريَّةٍ وإقدام طائش. ذلك أنَّ الفُسحةَ التى توفّرت لحماس أن تُعِدّ خطّةَ الطوفان، فيها ما يُقيمُ الحجّةَ عليها بشأن الطبيعة الاضطراريَّة لقرار التنفيذ، وهامش الإرجاء أو التقديم، وسرّ الرهان على دعم الخارج، أو الاكتفاء من الحرب بأن يتعرَّى القاتلُ أخلاقيًّا؛ ولو على جبلٍ من الركام والأشلاء. وكذلك الحال فى لبنان؛ فما تعاظَمَتْ قوّةُ الحزب إلَّا بأثر التهدئة بعد الحرب، ومفاعيل القرار 1701 وإن ظلَّ مُنتَهَكًا من الطرفين. وبقدرِ ما أفرطَ فى تفخيخ بطن الضاحية بالأنفاقِ والمخابئ، استجلبَ عليها أطنانًا من القنابل الأمريكية والصهيونية، مثلما أنَّ لعبةَ الاختباء بين المدنيِّين تُنزِلُ الخرابَ على رؤوسهم، ومثالُه الأوضحُ فى قصف بلدة «زغرتا» المسيحيَّة فى الشمال؛ لا لشىءٍ إلَّا أنَّ قياديًّا اسمه أحمد فقيه اختار أنْ ينقلَ المعركة من الحزب وأجندته، إلى الدولة بعموم أرضِها وطوائفِها.. بالطبعِ تظلُّ الإدانةُ مُعلَّقةً فى رقبة نتنياهو؛ إنما لا يُمكنُ الانصراف عَمَّن تكفَّل بأنْ يُوسِّع له خريطةَ الاستهداف.

إذا كانت الجاهزيّةُ للحرب غائبةً عن المُمانَعة؛ فلا منطقَ على الإطلاق فى المُبادرة بالذهاب إليها. وبعيدًا من مسألة توفير الذرائع للعدوَّ؛ فإنه إنْ كان يتشدَّدُ فى العدوان ويُفسِدُ مُقاربات التهدئة؛ فالمُؤكَّد أنه لا يمنعُ «حماس» من مُراجعة نفسِها، والاعتراف بأخطائها، والعودة للحظيرة الوطنية على أجندة مُنظَّمة التحرير، وإنهاء مسار الانقسام الذى افتتحته بإرادةٍ فرديَّة مُطلَقة قبل سنوات. وكذلك؛ فإنّه لم يكُن السببَ فى استبداد حزب الله بالدولة اللبنانية؛ ولا إلغائِه لها بإراقة الدم أو سدِّ منافذ السياسة، وبالضرورة لا يعزلُه عن التوافق مع الشركاء، وعن العودة إلى ميثاقيَّة الطائف، ومُغادرة موقفِه المُتصَلِّب بتعطيل انتخاب رئيسٍ للجمهورية، أو إعادة قرار الحرب والسِّلم للسلطة الشرعية. والأهمّ أنّه لم يربطْه بإيران، كما أنَّ عداوتَه لا تُبرِّر له التحوُّلَ من فصيلٍ وطنىٍّ إلى قاعدةٍ مُتقدِّمةٍ للولىِّ الفقيه.

والخلاصةُ أننا لا نتعرَّف على أعدائنا اليومَ، وقد جرَّبنا خيارات الشيعيّة المُسلَّحة من قبل بعناوين أُخرى، وإذا كان الخطرُ عظيمًا والجراحُ غائرةً من جانب الصهيونية؛ فإنَّ التشافى منها لا يُمكنُ أنْ يتحقَّق بما تأكَّد أنه يخدمُها بأضعافَ ما يخصمُ منها. والحقيقةُ أنّها مُصيبةٌ كُبرى أنْ نظلَّ فى دوّامةٍ مُغلقة من الخيارات الصفرية، أو أنْ نُجرِّب إخفاقاتنا القديمةَ كُلَّها وننتظرُ منها نتائجَ مُغايرة.







مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة