«لمى» تنشر فيديوهات عن أطفال القطاع لنقل صوتهم للعالم وتقول: يجب أن يروا ما نعانيه من تشريد وتعذيب.. ننام ونصحى على أصوات القصف ولا مكان آمن.. نفسنا توقف الحرب ونرجع لبيوتنا ومدارسنا
عبدالله: نعيش على الأسفلت ونمشى 2 كيلو لنحصل على المياه وقد ننقصف قبل أن نصل.. والمؤسسات الأممية: مليون طفل على أعتاب المجاعة.. 9 آلاف استشهدوا بالقصف.. وانتشار الأمراض والأوبئة بسبب المياه الملوثة
«لأن الزمن فى غزة شىء آخر.. فهو لا يأخذ الأطفال من الطفولة إلى الشيخوخة فحسب بل يجعلهم رجالا فى أول لقاء مع العدو»، تلك الكلمات المقتبسة من قصيدة الشاعر الفلسطينى محمود درويش التى كتبها قبل ما يقارب الـ15 عاما متغزلا فى مقاومة وصمود أهل غزة، هى أبهى صورة يمكن بها وصف أطفال القطاع المنكوب، أطفال تركوا خلفهم اللهو واللعب وحملوا على عاتقهم الدفاع عن وطنهم وأرضهم، متحدين ظروف النزوح والجوع والعطش والقتل والدمار.
خلال ما يقارب الـ90 يوما من الحرب الإسرائيلية الغاشمة على قطعة أرض لا تتعدى الـ365 كم راح ضحيتها 22 ألف شهيد، تعرض مليون طفل داخل القطاع إلى كل صنوف الغدر والقهر ما بين استشهاد وإصابات أدت لإعاقات دائمة ونزوح وجوع وعطش وأمراض، ومن بين تلك المعاناة ضرب أطفال غزة مثالا فى الصمود كما يقول دوريش، تركوا القلم والكتاب قسرا بعد قصف مدارسهم وحملوا هاتفا يتجاوز كفوفهم الصغيرة وراحوا ينشرون جرائم المحتل الغاشم، فتحولوا إلى نجوم على السوشيال ميديا وأصبح صوتهم مسموعا من كل العالم بملايين المتابعات لصفحاتهم التى لا يتجاوز عمرها زمن الحرب.
وفى حين كان الأطفال أبطال أغلب الصور التى تأتينا من القطاع والذين لم تتجاوز أعمارهم بضع سنوات، وخرجوا حاملين الأطباق والأوانى بحثا عن طعام وشراب لجدة عجوز أو أب عاجز أو أم طريحة الفراش، كان هناك عدد منهم هم صُناع الصورة ينقلون المحتوى وسط القصف والدمار اختاروا أن يحكوا هم حكايتهم وينقلوها بقلوب يملؤها الصدق والأمل.
بكلمات بسيطة روت لمى الفتاة الفلسطينية ذات الـ9 أعوام حكايتها لـ«اليوم السابع» والتى تتشابه مع أغلب أقرانها داخل القطاع، حيث عانت النزوح مرتين منذ بداية الحرب فى 7 أكتوبر الماضى حتى استقر بها الحالى فى خيمة داخل رفح، ولكنها لم تيأس وراحت تنقل الأوضاع داخل القطاع لحظة بلحظة.
وأضافت: «كان من واجبنا تجاه وطننا أن نقدم وننشر ونصور كل معاناتنا حتى يرى العالم إننا اتعذبنا وتعبنا وبدنا توقف الحرب، ونرجع بيوتنا»، كلمات تحمل فى طياتها معاناة وأملا فى آن واحد قالتها لمى التى أصبحت من مشاهير الحرب بأكثر من 600 ألف متابع، منحوها الثقة لتحكى لهم يوميات الطفولة فى قطاع غزة.
وتابعت لمى قائلة: «نزحنا من قطاع غزة فى البداية على خان يونس ولكن بعد أن ساءت الأوضاع هناك، والقصف والاشتباكات كانت كثيرة وقريبة جدا من أماكن إقامتنا، نزحنا مرة أخرى لرفح، وصوت الطلقات والمدفعيات لا يفارقنا طول الليل، ننام ونصحى على هذه الأصوات والقصف والطائرات المسيرة فوق بيوتنا، لم نشعر بالأمان، حتى عندما نذهب من مكان لمكان لا نجد مكانا آمنا وإن شاء الله ربنا يحلها على خير، ونرجع بيوتنا».
ومنذ نزحت لمى وهى لم تعد تعرف شيئا عن بيتها، وقالت: «أنا عايشة مع أبى وأمى وإخوتى صراحة منذ نزحنا لم أعرف عن بيتنا أى شىء والوضع كثير سيئ كل يوم القصف بيزيد والمساحة بتضيق علينا مش عايزين ننزح تانى، بدنا الحرب تنتهى»، لمى وأسرتها هى واحدة من آلاف النازحين بالقطاع، حيث تشير الإحصائيات الرسمية إلى أن هناك 1.8 مليون نازح فى قطاع غزة منذ بدء الحرب من إجمالى 2.2 مليون عدد السكان بنسبة 85 %.
وينتمى سكان غزة إلى فئة صغار السن إلى حد غير عادى، حيث تشير تقديرات «يونيسيف» إلى أن هناك ما يقرب من مليون طفل يعيشون فى قطاع غزة، ما يعنى أن نصف سكان غزة تقريبا من الأطفال، كما تبلغ نسبة السكان دون 15 عاما 40 %، وفقا لبيانات وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية «CIA».
وأكدت البروفيسورة ديفى سريدهار، رئيسة قسم الصحة العامة العالمية فى جامعة إدنبره البريطانية، فى مقال لها بصحيفة «الجارديان» أن حرب غزة هى الصراع الأشد فتكا بالأطفال فى الآونة الأخيرة، إذ قُتل نحو 160 طفلا يوميا فى الشهر الماضى وفقا لمنظمة الصحة العالمية.
وأضافت سريدهار: «قارن هذا بثلاثة فى اليوم فى الصراع الأخير فى سوريا، واثنين فى اليوم فى أفغانستان، و0.7 فى اليوم فى أوكرانيا، فى حين يبلغ العدد الإجمالى للأطفال الذين قتلوا بالفعل فى غزة أكثر من 5300 طفل، بحسب منظمة اليونيسف.
بينما تشير إحصائيات وزارة الصحة فى قطاع غزة إلى أن هناك 9 آلاف شهيد من الأطفال و7 آلاف مفقود 70 % منهم من الأطفال والنساء، بينما دمر الاحتلال 65 ألف وحدة سكنية كليا، و290 ألف وحدة سكنية تم تدميرها جزئيا.
قصة لمى أصغر صحفية بقطاع غزة، بدأت بتسجيل فيديوهات فى غرفتها قبل النزوح، حيث تحكى: «كنت الأول بسجل بالغرفة وعندما شاهد ابن خالتى الفيديو طلب من بابا أنه ينشر الفيديو على السوشيال ميديا، بابا وافق واستمررت فى تسجيل الفيديوهات وأنشرها بمساعدة ابن خالتى»، واعتبرت لمى أن ما تقوم به هو رسالة وواجب بأن تنشر فيديوهات وصورا للعالم عن الأطفال فى قطاع غزة، وقالت: «يجب أن يروا ما نعانيه من تشريد وتعذيب حتى يسمعوا صوتنا ومعاناتنا».
وتتحمل الفتاة الصغيرة خطورة التنقل وصعوبته رغبة منها فى أن تكون صوت مليون طفل داخل القطاع، وتتحدث بفخر عن إنجازاتها ولقاءاتها الصحفية التى تجريها كل يوم، وتحكى: «أحيانا يرافقنى أبى وأحيانا ابن خالتى أو ابن عمى، نذهب ونصور الفيديوهات والصور عشان أنزل للعالم صورة الأطفال المعذبة فى القطاع».
ورغم ما تراه الطفلة ذات التسع سنوات من أهوال لتنقل صوت أقرانها إلا أنها ستستمر حتى تنتهى الحرب، وقالت: «حسيت بأهمية ما أقوم به خصوصا لما بدأ يكون فى متابعين كتير وبيزيدوا يوم بعد يوم، وأصبحت أبحث كل يوم عن المحتوى الجديد وصار المتابعون يرسلون لى ويشجعوننى ويطالبوننى بنشر فيديوهات كل يوم، وأنا بحب مهنة الصحافة من قبل، أتمنى نرجع لبيوتنا ومدارسنا التى انقصفت».
ومع بداية العام الدراسى الحالى كان هناك أكثر من 625 ألف طالب وطالبة، فى مقاعد الدراسة بجميع محافظات قطاع غزة، من بين هؤلاء الطلبة 305 آلاف فى المدارس الحكومية، موزعين على 448 مدرسة، ونحو 300 ألف فى مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «الأونروا»، موزعين على 228 مدرسة، و21 ألفا فى المدارس الخاصة، ويبلغ عددها 67 مدرسة.
فيما بلغ عدد المعلمين والمعلمات أكثر من 22 ألفا، موزعين على 12 ألفا فى المدارس الحكومية، و9300 فى مدارس الوكالة، و1300 فى المدارس الخاصة.
ولكن بعد الحرب تشرد الطلاب وغادر المعلمون، حيث استهدف الاحتلال المدارس، وشهدت 92 مدرسة وجامعة تدميرا بشكل كلى، و285 مدرسة وجامعة دمرها الاحتلال بشكل جزئى، حتى مدارس الأونروا لم تسلم من هجمات الاحتلال، وقال المفوض العام لوكالة الأونروا، فيليب لازارينى، إنه شاهد «برعب شديد» تقارير عن الهجوم على مدرسة الفاخورة التابعة للوكالة، التى كانت تأوى آلاف النازحين شمال غزة، وقال إن المدرسة التى كانت تأوى أكثر من 7 آلاف نازح تعرضت للقصف مرتين خلال الحرب، وأضاف أنه «فى أقل من 24 ساعة، تم استهداف مدرستين تابعتين للأونروا فى قطاع غزة تأويان عائلات نازحة».
كذلك مدرسة أخرى تابعة للأونروا، هى «الفلاح» فى حى الزيتون فى مدينة غزة تعرضت لقصف مباشر، ما أدى إلى مقتل وإصابة العشرات، واعتبر المسؤول الدولى أن هذا دليل آخر على عدم تمتع أى شخص أو أى مكان بالأمان فى غزة، وذكر أن «هذه الأعمال لا تتعارض بشكل صارخ مع قواعد الحرب فحسب، بل إنها تظهر أيضا استخفافا تاما بالإنسانية».
ومنذ بداية هذه الحرب، تم الإبلاغ عن مقتل ما لا يقل عن 176 شخصا يحتمون فى مدارس الأونروا، وإصابة ما يقرب من 800 شخص آخرين خلال قصف القوات الإسرائيلية، كما نقل موقع الأمم المتحدة عن «لازارينى».
تعود لمى لاستكمال حديثها عن يومياتها فى القطاع، حيث تتذكر فى ألم أصعب اللحظات التى مرت عليها حين قصف الاحتلال بيت خالتها الذى كانت تحبه وتحمل جدرانه الكثير من ذكرياتها، قائلة: «كنت أحب بيت خالتى وكنا نروح لهم كتير ونلعب كلنا وكان أصعب موقف مر علىّ منذ بداية الحرب عندما انقصف البيت، ودائما أتذكر أصحابى هناك ملاك وبراء كنا نحب نلعب مع بعض، ولما نروح أى مكان نروح سوا وننبسط، كل اللى بنتمناه حياتنا ترجع إلى قبل الحرب».
لم تتوقف المعاناة عند حد النزوح وضياع البيت والأمان، بل إن حياة الأطفال فى غزة سلسلة من المعاناة كما تحكيها لنا لمى: «نتمنى أن يكون متوفر كل شىء، ولكن كما ترون نحن نعانى حتى للخروج من مكان لمكان، لا توجد مواصلات نستخدم «الكارو» لأنه لا يوجد بنزين، معاناة الناس كثير سيئة فى كل شىء، أكل وشرب وغاز وبنزين، للأسف حتى المياه مقطوعة وليس أمامك اختيار إما تشربها غير صالحة أو تذهب لمكان بعيد حتى تحصل على المياه، ولكنك مضطر للوقوف فى صف طويل حتى تصل وقد تستغرق من الصباح للمغرب تضل واقف، لا شرب ولا أكل ولا حطب، حياتنا أصبحت سيئة ليس لدينا إلا كميات قليلة».
معاناة الأكل والشراب حذرت منها المنظمات الأممية، من جهتها، قالت بلدية غزة إن الأطفال فى مدينة غزة وشمال القطاع يموتون لعدم توفر قطرة ماء واحدة، وحذرت من تفشى الأمراض نتيجة عدم وجود وقود لتشغيل آليات البلدية لجمع النفايات ورفع الركام وضخ المياه، وناشدت بتوفير الوقود حتى تستطيع توفير الخدمات الأساسية لـ700 ألف شخص ما زالوا يعيشون فى غزة والشمال.
وأوضحت الدكتورة مارجريت هاريس، المتحدثة باسم منظمة الصحة العالمية، أن معدلات الإسهال بين الأطفال فى مخيمات اللاجئين فى غزة كانت فى أوائل نوفمبر أكثر بنحو 100 مرة من المستويات الطبيعية، وفى غياب أى علاج، يمكن أن يصاب الأطفال بالجفاف ويموتون بسرعة.
كما تعد أمراض الإسهال السبب الرئيسى الثانى لوفاة الأطفال دون سن الخامسة فى جميع أنحاء العالم، وهى ناجمة عن مصادر المياه الملوثة وعدم إمكانية الحصول على سوائل الإماهة الفموية، كما زادت حالات التهابات الجهاز التنفسى العلوى، وجدرى الماء، والأمراض الجلدية المؤلمة أيضا، وهناك مخاوف من أن تؤدى الفيضانات الأخيرة إلى اختلاط مياه الصرف الصحى غير المعالجة بالمياه العذبة المستخدمة للشرب والطهى، والتسبب فى تفشى مرض الكوليرا.
وقالت الأمم المتحدة إن 10 % فقط من المواد الغذائية اللازمة لسكان القطاع البالغ عددهم 2.2 مليون نسمة تدخل إلى غزة، وأكد برنامج الأغذية العالمى التابع لمنظمة الأمم المتحدة، أنه لا يمكن تجنب المجاعة وانهيار الخدمات الأساسية بقطاع غزة إلا بهدنة طويلة وعدم عرقلة المساعدات، وأوضح المسؤولون فى برنامج الأغذية العالمى، أنهم «يسابقون الزمن فى غزة لتجنب المجاعة والانهيار».
ليست لمى وحدها بل هناك عبدالله وعبود الذين أصبحوا من مشاهير أطفال الحرب بنقل ما يحدث فى غزة بشكل لحظى، ويقول عبدالله: «الوضع سيئ والناس بتفكر الحرب بتخلص لكنها تزداد سوءا، تعبنا والله تعبنا، الناس تعيش على الأسفلت وين بدنا نروح لو بدنا نروح على رفح فين المكان اللى بيكفى، غزة وخان يونس أصبحوا فى رفح».
ويضيف عبدالله: «منطقتنا يقطع فيها الإنترنت لأيام كثير وذهبت لمنطقة بعيده لأوفر الإنترنت وأنقل فيديوهاتى، يارب هذه آخر تهجيرة، نحن نعانى لا أكل ولا شرب ولا أى شىء، إلى متى سنظل على هذا الحل، زمان كان عندنا طحين الآن نأكل ردة التى تقدم للحمام والطيور».
ويحكى عن معاناة الحصول على مياه صالحة للشرب: «بنمشى حوالى 2 كيلو عشان نحصل على مياه حلوة، فى حين يمكن طيارة تقصفك وانت فى الطريق، تركنا بيوتنا الحلوة ولجأنا للخيم، وبنقول الحمد لله إننا لقينا حاجة تأوينا، نكسر الحطب لنولع النار لأن ما فى غاز، نفسى توقف الحرب نفسى أروح للمدرسة».
حكاية لمى وعبدالله هى نفس حكاية مليون طفل يعيشون فى قطاع غزة، شاهدوا بيوتهم تُدك أمام أعينهم، فقدوا أحد الأحباء، نزحوا لينجوا بحياتهم مع من تبقى من الأهل والجيران، تركوا مدارسهم وأحلامهم، يعانون الجوع والعطش والأمراض، ولكنهم لم يفقدوا الأمل وأصبحوا أكثر تمسكا بالوطن والأرض.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة