خالد دومة يكتب: الأعمى

الخميس، 25 يناير 2024 02:12 ص
خالد دومة يكتب: الأعمى خالد دومة

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كان يبحث عن الحب، لكنه لم يجده، تاه في طرقات المدينة الواسعة، داسته الأقدام، لم تشعر بها إلا بعد أن أصبح جثة هامدة، رفعوه من على الأرض، ثم كفنوه، وحملوه فوق خشبة الموت، وحفروا له قبرا، وضعوه في حفرة عميقة، وألقوا عليه التراب، قرأوا الفاتحة، وانصرفوا كل إلى عمله، لم تختلف الحياة كثيرا، عما كانت من قبل، كما رحل الكثير من البشر رحل، كتب الموت على كل شيء، فلماذا لا يموت الحب أيضا، أقاموا له بعد أيام حفل تأبين، تكلم البعض، النفاق الكذب ودعو له من خلف ظهورهم بالرحمة، ثم أنصرف الجميع إلى دورهم، وقفت قليلا بعد أن رحلوا، تملكني الفزع، ثم رحلت، كما رحلوا، لم أعد أتغنى بشيء، كيف لي أن أتغنى بالموت، وهو يفطر كل قلب، شحنت نفسي من ذاكرة الماضي، لكنها لم تجدي نفعا، أنام مبكرا وأصحوا للعمل، ثم أعود لأنام مرة أخرى، وتمر الأشياء من حولي في وتيرة واحدة، لأن كل شيء تغير، لون عيون الأخرين، والشفاة التي كانت تبتسم بهتت، كل بريق في وجوه الناس انطفأت، تحول إلى لا معنى، أستغرق الأمر سنوات، لينبت شيء جدديد، لكنه لم يكن، لم يجيء، كان يجب أن يتأخر، يعود إلى الخلف، كي نعرف أن نعوض، أن ننتبه، فالجرم كان عظيم، لكننا لم ندرك حتى صوت الطيور، تغير كأنه شكوى، ونحن لا نفهم ما يقصد، الألفة لم تعد، خفت النور لدرجة كبيرة، لم يعد يظهر أي شيء سوى أشباح تتراء لنا، تملأ القلب رعبا وآسى، إنه المجون، السحر المكنون، في أطراف أثوابنا أو ما سرق منا، أتظن أنك فقدت شيء، بل أنت فقدت كل شيء، أشياء تراها، وأشياء تسكن، ولا تراه، وأشياء لم تمت، في ذاكرتك أتنوي البقاء على هذا النحو من اللا شيء، من اللا معنى، وما يضيرك إذا إذا كنت أعمى، وأنت مبصر، ولا جدوى من بصر عليل لا ير سوى لون واحد، يتحدث عن الأحمر والأخضر والأزرق، وهو لا يعرف معنى ما يقول، يخدعه خياله، وينقل عن الأخرين ما أملي عليه، كل لون لا لون فيه، إنما هو لون واحد، وسيرة واحدة، ينقل ما تتناقله أذنه، حقائق ثابته، يرى بأذنه ما لا يعرف الشعور، إنها أكاذيب القلب والعقل، مناوشات الهروب من الإعتراف بالعجز، بأن هناك نقص في المخيلة، الصغار ينقلون ما لا تراه عيني، مئات الأحاديث، نقطة البدء، أنا الآن في وسط طريق الأخرين أشعر بشعورهم، وأنقل خُطايا بأقدامهم، فأنا مبتور الساق، لأن عيني لم ترى، نعم لي قلب، لكنه صناعة الأخرين، هم من أنشأؤه صنعوا فيه، ما أملت عليهم عيونهم، وأنا أنقل عنهم، حدثني لسانهم عن عيونهم، التي ترى، يرسمون الحدود والبدايات والنهايات، ويحشون في الهيكل الأجوف ما يرون، آكون صناعة غيري، فلماذا لا أفكر بعقولهم، وأشعر بقلوبهم، أنني أرى بعيونهم وبقلبي أرى أشياء لم يروها، أنقل لهم، ولكنهم ينكرون لا يعترفون بعيون القلب، إذا ليس للقلب عيون، إنه يضخ الدم، ولا علاقة له بالرؤية، فهو أعمى إن كان بلا عين، أيعقل أن تكون قلوبهم لترى ما أرى بعين قلبي، أحجبت عيونهم ما يراه القلب، ولا يستطيع أن تنقله العيون، أو الألسنة أيعقل أن يفقد مهامه الرئيسية، كل ما يستطيع أن يحمل دما، كأنما يحمل قربة ماء، بلاص لا قدرة له على فهم ما يحمل، كل ما في الأمر كرات من دماء حمراء وبيضاء، أليست حية لها نبض، يحس إنهم لم يتركوا للأعمى شيء، إنهم يمنون عليه، إذ يسحبونه من يديه، ليضعوه على الطريق ثم يتركونه، بعد أن لقنوه من جعبتهم ما أستطاعوا، يحاول أن يريهم أن له أيضا ما ينقصهم وأن يعطيهم كما أعطوه، ويلقنهم كما لقنوه، لكنهم لا يستمعون إليه، كلامه مرفوض كلية، فلا شيء عنده، هو خاوي، يحتاج دائما إلى العطاء، من الأخرين، هو لا يمتلك ما يمتلكون، في صباح يوم ما خرج وحده بعد أن ضاق ذرعا بهم، إنهم لا يستمعون إليه، ولا يعطونه الفرصة، ليقول لينقل لهم ما لا يرون، صورة واضحة من قلبه، قطعة صادقة مما يشعر به، خرج في بطيء شديد، يحمل خطواته الثقيلة إلى الخارج، تعثر في خطواته مرة وأخرى، كاد أن يقع المرة بعد الأخرى، مر على الكثيرين، أرادوا أن يأخذوا بيديه، لكنه أبى أن يعتمد على أحد منهم، في خضم ذهوله واستغراقه، في إثبات ما أرد، أن يقول مرت سيارة لتطيح برأسه المثقل بالهموم، المثقل بالأفكار، أطاحت برأسه المنكوب، كل جزء تناثر تبخر مع ريح عاصفة حملته إلى بلاد بعيدة، عن البشر، عن الكائنات، في لحظة الإطاحة شعر بخفة رهيبة، بروعة أن تكون بلا أفكار بلا هموم، أن تفقد أن تكون كالآخرين بلا عيون، في اللحظة الأخيرة، قبل الانفصال أبصرت عينها الحقيقة، أنه لا يجتمع بصران، وأن العمى خيار بين العين القلب، وأن أحدعما يمحو الآخر، في لحظة الهدم كان البناء، الذي يشبه الحقيقة الغائبة.
 
 
 






مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة