أوضحت دار الإفتاء حالات تكليف المريض النفسى بالصيام، موضحة أن تكليف "المريض النفسي" بالعبادات -ومنها الصيام كما هي مسألتنا- لا يخلو من أحد حالين:
الأول: ألَّا يؤثر مرضُه على إدراكه وتمييزه لا بالعدم ولا بالنقصان؛ كالمريض بنوبة من الاكتئاب أو الوسواس أو اضطراب الخوف، وفي هذه الحالة يجب عليه الصوم، غيرَ أنَّ الحكم بالوجوب منوطٌ بالقدرة والاستطاعة؛ لما تقرر في قواعد الشرع من أن: "المَشَقَّةَ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ"، و"الضَّرَرَ يُزَالُ"؛ كما في "الأشباه والنظائر" لجلال الدين السيوطي (ص: 76، 83، ط. دار الكتب العلمية)، فإذا أخبره الطبيب المختص أن صيامَه يؤدي إلى تأخير بُرْئِه بسبب إخلال بمواعيد الدواء، أو أدَّى إلى زيادة مشقة لا تُحتَمَل عادةً أو نحو ذلك مما يستلزم الإفطار؛ فيُرَخَّصُ له حينئذٍ بالفطر، ويلزمه القضاء بعد البُرْءِ والتمَكُّنِ من الصيام إن كان مِمَّن يُرجى برؤه من مرضه هذا، وإلا لزمته فدية عن كُلِّ يومٍ من الأيام التي فطرها من رمضان.
وذلك لما تقرر عند فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة أن رخصةَ الفطر تتحقَّقُ في المرض الذي يزداد بالصوم شِدّةً أو مُدَّةً بإخبار الطبيب المختص، أو لا يستطيع المريض معه الصوم، أو يستطيعه بمشقَّة شديدة، وربما كان الإفطارُ في بعض الحالات واجبًا إذا كان الضررُ بالغًا وكان احتمالُ حصوله غالبًا؛ وعلى مَنْ أفطر أن يقضي ما أفطره عند القدرة. ينظر: "الأشباه والنظائر" للعلامة ابن نجيم الحنفي (ص: 71، ط. دار الكتب العلمية)، و"القوانين الفقهية" للعلامة ابن جزي المالكي (ص 82، ط. دار القلم)، و"المجموع" للإمام النووي الشافعي (6/ 258، ط. دار الفكر)، و"الفروع" للعلامة ابن مفلح الحنبلي (4/ 437، ط. مؤسسة الرسالة).
والثاني: أن يؤثر المرضُ على إدراك المريض وتمييزه بالعدم أو النقصان؛ فيغلب فيها المرضُ على عقلِ المُصاب، حيث يضطرب إدراكُ مصابِه ويختلُّ فِعْلُهُ؛ كالمريض بالأمراض الذهانية كالخرف المتدهور، ونوبة الفصام الحاد، ونوبات الهوس الشديدة والحادة، فمثل هذه الأنواع بتأثيرها على العقل حُكْم المصاب بها حُكم من زال عقله بجنون وما يندرج في معناه، ولو كانت هذه النوبات غير مزمنة؛ بحيث يكون مكلفًا حين إفاقته، وغير مكلف حين تغلب تلك النوبات وقت حدوثها.
قال الإمام العمراني في "البيان" (2/ 12، ط. دار المنهاج): [قال الشافعي: "وأقل زوال العقل: أن يكون مختلطًا، فيعزُب عنه الشيءُ وإن قلَّ، ثم يثوب إليه عقله"] اهـ.
وقال الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج" (1/ 314، ط. دار الكتب العلمية): [فوَرَدَ النصُّ في المجنون، وقيس عليه كلُّ مَن زال عقلُه بسبب يُعْذَرُ فيه، وسواء قلَّ زمن ذلك أو طال] اهـ.
كما قرر العلَّامة ابن عابدين إناطة حكم المجنون بغلبة الخلل في الأقول والأفعال الخارجة عن عادة الإنسان وإن كان يعلمها ويريدها، فقال في "حاشيته على الدر المختار" (3/ 244، ط. دار الفكر): [ولا ينافيه تعريف الدَّهْشِ بذهاب العقل، فإن الجنونَ فنون، ولذا فسره في "البحر" باختلال العقل وأدخل فيه العته والبرسام والإغماء والدَّهْش. ويؤيده ما قلنا قول بعضهم: العاقل مَن يستقيم كلامُه وأفعالُه إلا نادرًا، والمجنون ضده. وأيضًا فإن بعضَ المجانين يعرف ما يقول ويريده ويذكر ما يشهد الجاهل به بأنه عاقل ثم يظهر منه في مجلسه ما ينافيه، فإذا كان المجنون حقيقة قد يعرف ما يقول ويقصده فغيره بالأولى، فالذي ينبغي التعويل عليه في المدهوش ونحوه: إناطة الحكم بغلبة الخلل في أقواله وأفعاله الخارجة عن عادته، وكذا يقال فيمن اختلَّ عقلُه لكِبَرٍ أو لمرضٍ أو لمصيبةٍ فاجأته: فما دام في حال غلبة الخلل في الأقوال والأفعال لا تعتبر أقواله وإن كان يعلمها ويريدها؛ لأن هذه المعرفة والإرادة غيرُ معتبرةٍ لعدم حصولها عن إدراكٍ صحيح كما لا تعتبر من الصبي العاقل] اهـ.