حالة من الفشل تلاحق إسرائيل في اللحظة الراهنة، ليس فقط على المستوى الميداني على أرض المعركة، وإنما أيضًا من حيث الموقف الدولى الذي بات ممتعضًا إلى حد كبير جراء التعنت الاسرائيلي سواء فيما يتعلق برفضها الاستجابة لمطالب وقف إطلاق النار أو تفاقم الانتهاكات التي ترتكبها قوات الاحتلال، والتي أسفرت عن سقوط آلاف الضحايا من المدنيين، معظمهم من النساء والأطفال، وهو ما يضع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وحكومته في العديد من المآزق سواء المرتبطة بلحظة العدوان الراهنة أو فيما يتعلق بمستقبل القضية الفلسطينية.
ولعل أبرز إرهاصات المشهد الدولي الرافض للممارسات الإسرائيلية، يتجسد في خروج دائرة الامتعاض الدولي عن منطقة الشرق الأوسط، والتي تمثل عمقا إستراتيجيا داعما للحق الفلسطيني، وهو ما يبدو أولا في إدانات كبار المسؤولين الدوليين، لسياسة المماطلة التي تتبناها حكومة الاحتلال، والتي لا تقتصر في جوهرها على العدوان وإنما تعود إلى عقود طويلة من الزمن، وهو ما يبدو في تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش والذي اعتبر أن عملية طوفان الاقصى هي رد فعل لسياسات الدولة العبرية وانتهاكاتها، ثم حديث مسؤولين غربيين، على غرار رئيسا وزراء أسبانيا وبلجيكا، عن ضرورة الاعتراف بدولة فلسطين باعتباره السبيل لتحقيق الاستقرار في المنطقة، في الوقت الذي أدانت فيه دولا أخرى حليفة لإسرائيل، الإدانات المرتكبة في القطاع منذ أكثر من ١٠٠ يوم.
إلا أن سياسات الإدانة تحولت بعد ذلك إلى خطوات عملية، تجسدت في الدعوى القضائية التي رفعتها جنوب إفريقيا بحق الاحتلال الإسرائيلي، أمام محكمة العدل الدولية، وهي الخطوة التي تحمل أهمية كبيرة على مسارين، أولهما أنها جاءت لوضع المزيد من الضغوط على دولة الاحتلال فيما يتعلق بالعدوان على غزة والانتهاكات المرتكبة بها، ناهيك عن التعنت في توصيل المساعدات الانسانية لسكان القطاع، بينما يبقى المسار الثاني مرتبطا بخروج الدعوى عن الاطار العربي أو الاسلامي الداعم لفلسطين، وهو ما يضفي مزيد من الزخم للقضية، أمام العالم، عبر توسيع دائرة الدعم للقضية جغرافيا، من خلال إحياء دور المناطق التي لعبت دورا تاريخيا في دعم القضية، بينما ابتعدت تدريجيا خلال السنوات الاخيرة بسبب تهميشها من قبل القوى الرئيسية في الإقليم تارة، وانغماسها في مصالحها مع الغرب الموالي لإسرائيل تارة أخرى، لتصبح الخطوة التي اتخذتها جنوب أفريقيا بالأهمية لإضفاء مزيد من الزخم على القضية، عبر تعزيز المعسكر الداعم لفلسطين وقضيتها.
ويعد إقدام دولة مثل جنوب إفريقيا، بما تملكه من تاريخ وجغرافيا، بعدا مهما وفارقا، عند النظر إلى الدعوى المنظورة أمام محكمة العدل الدولية، في ظل ما تضفيه طبيعة الدولة صاحبة الدعوى من زخم دولي، خاصة وأنها لا تنتمي إلى منطقة الشرق الأوسط، بالإضافة إلى كونها لا تنتمي إلى الهويتين العربية والإسلامية، بالإضافة إلى معانتها التاريخية مع العنصرية، وهو ما يعكس موضوعية القضية التي قررت بريتوريا تبنيها أمام القضاء الدولي الأرفع عالميا، بعيدا عن أية انحيازات، ناهيك عن علاقاتها القوية بالقوى الدولية المؤثرة، وهو ما يبدو في كونها عضو مؤسس في مجموعة "البريكس"، جنبا إلى جنب مع روسيا والصين والهند، بالإضافة إلى كونها لاعبا قويا فيما يتعلق بالتحرر من النفوذ الغربي المتنامي في أفريقيا، وهو ما بدا في العديد من المشاهد أبرزها التوتر الملموس في العلاقة مع واشنطن، على خلفية التقارب الكبير بين بريتوريا وموسكو.
ويبدو أن دخول جنوب أفريقيا على خط الأزمة في فلسطين، بمثابة خطوة أولى قد ينجم عنها خطوات أخرى، تصب في صالح القضية الفلسطينية، وهو ما يبدو في الموقف الكندي الأخير حول القضية المرفوعة أمام محكمة العدل الدولية ، وهو ما بدا في تصريحات رئيس وزرائها جاستن ترودو، والذي أعرب عن دعمه للمحكمة وعملها ومتابعته لما سوف تسفر انه القضية، وهو ما يمثل تغييرا مهما في الموقف، وإن بدا محايدا في ظل رفضه الحديث عما إذا كانت بلاده ستؤيد أي حكم يدين الدولة العبرية.
التغيير في الموقف الكندي يبدو ملموسا في ضوء قراءة العديد من المعطيات أبرزها موقفها الداعم لإسرائيل منذ بداية الازمة، عبر تبرير العدوان على غزة تحت ذريعة الدفاع عن النفس، بالاضافة إلى العلاقة القوية بين كندا والولايات المتحدة التي تعد الداعم الاكبر لاسرائيل على مستوى العالم، وهو ما يعكس أن تصريحات ترودو الداعمة للمحكمة وعملها في حد ذاته تغييرا جذريا في الموقف الدولي الذي من شأنه تعميق العزلة التي تعانيها إسرائيل في اللحظة الراهنة.
وبالنظر إلى مواقف العديد من القوى الأوروبية، والموقف الكندي الأخير، ناهيك عن خطوة جنوب إفريقيا، نجد أن القضية الفلسطينية باتت تتجاوز المحيط الاقليمي أو البعد المرتبط بالهوية العربية والإسلامية، نحو أبعاد أخرى أوسع نطاقًا، ربما تنطلق في جزء كبير منها من البعد الإنساني، توافق عليه العالم خلال العديد من المراحل، كان في مقدمتها قمة القاهرة للسلام التي انعقدت في مصر في أكتوبر الماضي، لتتسع من خلالها الدائرة الجغرافية الداعمة للقضية، عبر تحقيق اجماع إقليمي في القمة العربية الاسلامية بالرياض، ثم استقطاب قوى أوروبية بارزة، ثم دخول إفريقيا على خط المواجهة، وحتى الموقف الكندي الاخير.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة