حين توفى الفنان كارم محمود فى مستشفى سانت مارى بالعاصمة البريطانية لندن، يوم 15 يناير، مثل هذا اليوم، 1995، كان عمره 72 عاما، «مواليد 16 مارس 1922»، قضى منها نحو نصف القرن نجما ساطعا فى سماء الموسيقى العربية، بقدراته الصوتية المميزة التى جعلته ضمن أهم المطربين الذين مروا فى تاريخ مصر والمنطقة العربية.
كان لى حظ لقائه بمنزله مرتين شتاء عام 1990 للتسجيل معه فى حوار صحفى استمر لساعات، فى وقت كان فيه غير مقبل على اللقاءات الصحفية، إما لانصراف الصحافة الفنية وقتئذ عن كل جيله ممن هم على قيد الحياة، أو لإحباط أصابه حين كان يقارن هذا الانصراف بزمان مضى لم تكن تخلو فيه هذه الصحافة من الأخبار والموضوعات الفنية عنه.
أذكر أننى زودت نفسى بالمعلومات الكافية عنه لاستخدامها فى إقناعه، وبالفعل فور أن حدثته تليفونيا رد: «والله يا أستاذ سعيد أنا حكاية الصحافة دى مليش فيها أوى، وبعدين إحنا بنغنى والناس بتسمع وخلاص، حنقول إيه تانى»، فقلت: «مش معقول صاحب الأغانى الدرر، مثل «أمانة عليك يا ليل طول وعنابى والنبى يا جميل وعلى شط بحر الهوى وعينى بترف وسمرة يا سمرة ويانا يالعزال»، وغيرها، ما يطلعش للجمهور ويحكى قصته مع هذه الأغانى».
انتبه إلى أننى أحفظ أغانيه، فسألنى فيما يشبه الاختبار: «إيه رأيك فى الأغانى التانية؟ فسردت عليه عددا إضافيا من أغانيه بعضها من ألحانه وأخرى من ألحان غيره، وكذلك صوره الغنائية فى الإذاعة مثل «عوف الأصيل وقطر الندى والشاطر حسن وزرياب وسوق بلدنا وعلى بابا والأربعين حرامى، ورعاة الأندلس، والعروس والملاح وأوبريت مجنون ليلى» لأمير الشعراء أحمد شوقى وتلحين رياض السنباطى، وغنى فيه مع عادل مأمون وسعاد محمد، وقام بدوره «ورد» الذى تزوج ليلى حبيبة قيس».
«سألنى: أنا لى اتنين مجنون ليلى؟ قاطعته فورا: آه، فيه عمل جميل ورائع لحنه موسيقار اسمه عبدالحميد عبدالرحمن، وكنت أنت مع عبدالحليم حافظ ونجاة، وعباس البليدى، وإبراهيم حمودة، والحقيقة أنا سمعته مرة واحدة فى إذاعة البرنامج الثانى، وسجلته على كاسيت من شدة جماله، رد: لا ده انت مذاكر كويس، وكمان انت سميع، خلاص أنا فى انتظارك غدا الساعة الرابعة، وزادتنى موافقته ثقة وطمعا فطلبت منه ضاحكا: طمعان واحنا بنعمل الحوار فى إنك تسمعنى «أمانة عليك يا ليل طول».. رد: إن شاء الله».
وحسب الموعد المحدد، وكان الساعة الرابعة عصرا، كنت فى فيلته بميدان المحكمة بحى مصر الجديدة، واستقبلتنى زوجته بترحاب، وقادتنى إلى حجرة الصالون المزينة ببعض الصور له فى حفلاته وأدواره، وعوده الذى يعلو أريكة خشبية فاخرة، وجلست معى لدقائق، وأخبرتنى: دقائق وكارم هيكون موجود، ثم استفسرت منى عن جهة النشر، واشتكت لى من انصراف الصحافة عن زوجها بالرغم من كونه أحد أهم المطربين فى مصر.
دخل كارم محمود مرتديا زيه الرسمى، وبعد الترحيب والمجاملات، سألنى: إيه الموضوع؟.. قلت: عاوز أعرف قصتك من بدايتها، فرد: نبدأ»، وبدأنا: ولدت فى دمنهور بمحافظة البحيرة، وكان والدى شيخا جليلا يحفظ تعاليم دينه، وقارئا للقرآن الكريم فى مسجد سيدى عطية أبوالريش، وغطت شهرته فى تجويد القرآن محافظة البحيرة، وورثنا أنا وإخوتى حلاوة الصوت منه كما ورثنا تدينه الشديد، وكان أخى الأكبر محمد أكثر من ورث منه صوته الجميل، فغنى لعبدالوهاب وسيد درويش وأم كلثوم، لكن شهرته لم تتجاوز محافظة البحيرة، وهو الذى اكتشف جمال صوتى حين سمعنى وأنا أغنى وحيدا أغنية محمد عبدالوهاب «مين عذبك بتخلصه منى/ وذنبى إيه بتعذب فيه».
تحدث عن التحاقه بالمدرسة الدمنهورية السعيدية الابتدائية، واكتشاف مدرسه توفيق حميد جمال صوته، فضمه إلى الفريق الفنى بالمدرسة، وتجول هذا الفريق فى بعض المحافظات مثل الإسكندرية والقليوبية، وفى الثانية عشرة من عمره دخل سينما البلدية فى دمنهور ليشاهد فيلم الوردة البيضاء، وبعد أن شاهد الفيلم قرر أن يكون مثل بطله محمد عبدالوهاب.
يضيف كارم: «سافرت إلى الإسكندرية هربا من أسرتى، وعملت ببعض فرقها وذاعت شهرتى رغم صغر سنى، حتى جاء والدى إلى وأخذنى بعد علقة ساخنة، معترضا بتحفظه وتدينه على اختيارى هذا الطريق، وتم فرض رقابة شديدة على، لكننى استطعت الهرب مرة ثانية، ومن جديد أخذنى الوالد بعد علقة ثانية».
وأكد كارم، أنه استمر على هذه المعاناة حتى جاء إلى القاهرة، ليبدأ منها رحلة النجاح والشهرة التى جعلته واحدا من المطربين الكبار فى تاريخ الغناء العربى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة