كانت الساعة الثانية والنصف مساء السبت 13 يناير، مثل هذا اليوم 1962، حينما دخل ثلاثة ضباط سوريين إلى مكتب الرئيس جمال عبدالناصر بمنشية البكرى، وفقا للكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل فى كتابه «سنوات الغليان».
الضباط الثلاثة هم، العميد زهير عقيل، والعقيد محمد منصور، والرائد فايز الرفاعى، وكانوا من قادة حركة انفصال سوريا عن مصر، وإنهاء الوحدة بين البلدين يوم 28 سبتمبر 1961، بعد ثلاث سنوات من قيامها «22 فبراير 1958»، ونظرا لحالة المرارة التى تركها الانفصال على عبدالناصر، فإن اللقاء لم يكن متوقعا، ويذكر هيكل أنهم طلبوا اللقاء بواسطة الفريق جمال فيصل، القائد السابق للجيش السورى، الذى بقى فى القاهرة بعد الانفصال، وكان «عبدالناصر» يريد أن يسمع بنفسه، وأن يرى، ولهذا وافق وحدد موعد اللقاء، وجاء الثلاثة إليه فى حالة ارتباك شديد.
طلب «عبدالناصر» أن يتم تسجيل اللقاء صوتيا، وفى تقدير «هيكل» أنه كان يفعل ذلك فى بعض اللقاءات المهمة، التى يريد العودة إليها بالتفصيل للدراسة، ويؤكد، أن تسجيل هذا اللقاء فى أرشيف إدارة المخابرات العامة، وتم تفريغه وطباعة نسخ محدودة منه، وبدأت وقائعه بكلام للعميد زهير عقل، قائلا: «سيادة الرئيس.. إنه كرم منكم أن تتفضلوا بمقابلتنا بعد كل ما حدث، وكنا نثق فى أن هذا سيكون موقفكم بالنسبة لنا لما نعلمه من حبكم لسوريا وللشعب السورى، وكان هناك من زملائنا من يقولون إن سيادتكم ترفضون الاستماع إلينا، لأن ما حدث منا قد ألمكم، ولكن سيدى نحن نقسم لكم أن كل ما حدث لم يكن فى حسابنا ولا فى تصورنا».
رد «عبدالناصر»: «أنا أعلم أن بعضا منكم انساقوا فى هذا الموضوع بحسن نية، وغرر بهم، وصورت لهم الأمور على غير صورتها الصحيحة، ولكن ما حدث لم يعد مشكلة نوايا، إنكم بما حدث، مهما كان من نواياكم، أسلمتم وطنكم إلى الرجعية المعادية لمصالح الشعب والمتعاونة مع الاستعمار»، وقال العقيد محمد منصور: «سيدى.. أقسم لكم أن بيننا كثيرين لا ينامون الليل وهم يشعرون أن الأمة العربية ترميهم بالانفصال والرجعية»، ثم قال الرائد فايز الرفاعى: «سيدى.. إن كثيرين بيننا واجهوا عقاب ضمائرهم قبل أن يواجهوا أى عقاب غيره»، فعلق «عبدالناصر»: «إن الموضوع ليس موضوع عقاب. إنه أكبر من ذلك. إنه مسألة مبدأ. إننى فى حرب مع الاستعمار والرجعية، ولست فى حرب معكم، لقد استعملوكم، وأنا أعرف أن بعضكم أخذ الأمور بالعاطفة السطحية».
رد العميد زهير عقيل: «لهذا جئنا إليكم سيادة الرئيس. إن سوريا فى خطر. إن سوريا- سيدى- هى الهدف الذى يظن الاستعمار وأتباعه فى المنطقة أنهم قاربوا الوصول إليه، سوريا- سيدى- هى المقصودة بمحاولة الانقلاب فى لبنان، والذين دبروا محاولة الانقلاب فى بيروت كانوا يريدون دمشق، تمهيدا لمشروع الهلال الخصيب فى أحضان الاستعمار وتحت سيطرته، ومن ناحية أخرى- سيدى- فإن إسرائيل زادت نشاطها المشبوه فى المنطقة منزوعة السلاح، وهم تصوروا الانفصال فرصة سانحة للإسراع فى تنفيذ تحويل مجرى مياه نهر الأردن».
كانت محاولة الانقلاب فى لبنان التى آثارها «عقيل» حدثت فى آواخر ديسمبر 1961، ويذكرها «هيكل» فى «سنوات الغليان»، قائلا: «إن بعض القوى فى لبنان أحست أن حكومة اللواء فؤاد شهاب تصرفت بطريقة ودية إزاء القاهرة بعد انقلاب الانفصال، بتسهيل ترحيل عسكريين ومدنيين مصريين من سوريا، كما أن عناصر كثيرة فى الحركة الوطنية اللبنانية اعتبرت نفسها عيونا وأذانا للقاهرة على ما يجرى فى دمشق، وتحالف كميل شمعون الذى عاد من لندن قبل محاولة الانقلاب بثمانى وأربعين ساعة مع الحزب القومى السورى برئاسة عبدالله سعادة، وجرت المحاولة للاستيلاء على السلطة بالقوة المسلحة».
اضطر اللواء شهاب إلى استخدام الطيران اللبنانى، ودارت معارك بالدبابات، واعتقل ألفين وخمسمائة من أعضاء الحزب القومى السورى وأنصارهم، وحاصرت قوات الأمن اللبنانية قصر كميل شمعون، وثبت أن خطة المؤامرة رتبت فى معهد اللغات البريطانى بشملان فى لبنان، ثم تأكد هوية المؤامرة حين أذاعت وكالات الأنباء، وبينها وكالة رويتر، أن عددا من قادتها المطلوب القبض عليهم فروا من ميناء بيروت بزورق حملهم إلى مدمرة بريطانية كانت خارج المياه الإقليمية، ثم أدلى عبدالله سعادة باعترافات قال فيها: «إن هدف الانقلاب كان التمهيد لتحقيق مشروع الهلال الخصيب بتكوين اتحاد بين سوريا ولبنان والأردن والعراق»، كما قال: «إن حركته كانت موعودة باعتراف بريطانى فورى فى حالة نجاح الانقلاب»، وكان الهدف البريطانى من تأييد مشروع الهلال الخصيب هو تأكيد حصر مصر فى أفريقيا، وتصفية أى دور أو جود لها فى المشرق العربى.
امتدت مناقشات الضباط السوريين مع «عبدالناصر» إلى الساعة الواحدة والنصف من صباح اليوم التالى.